ليس سراً أن شعب ليبيا الغنية بالنفط قد تقطعت أوصاله جراء حرب أهلية فوضوية بدأت مطلع عام 2011 كجزء من "الربيع العربي". وقد برزت الخطوط الواضحة للتحول بين الأصدقاء والأعداء بعد حادثة السفير الأميركي كريستوفر ستيفنز وثلاثة مسؤولين أميركيين آخرين في 11 سبتمبر 2012، التي نفذتها المليشيات التي كانت ظاهرياً جزءاً من قوات الأمن التي تحمي بعثة الولايات المتحدة في بنغازي. لكنهم في الواقع كانوا متحالفين مع تنظيم القاعدة المركزي، للانتقام من مقتل زعيميْن في تنظيم ليبي نفذته طائرة أميركية دون طيار.
في يونيو 2014، أطاحت الانتخابات الليبية بالإخوان المسلمين وأبعدتهم عن السيطرة على الحكومة، مما عمَّق الانقسامات القبلية والدينية التي وسعتها قوى خارجية ممتدة من مصر إلى تركيا، الأمر الذي وسَّع نطاق الصراع. وتحالف الإسلاميون المهزومون مع كتلة من المليشيات المدعومة من جماعة الإخوان المسلمين. أمسك التحالف قبضته على العاصمة طرابلس، بينما كان البرلمان المنتخب يجتمع في طبرق تحت حماية سفن مصرية قبالة الساحل.
لقد تسبب تدفق الكميات الهائلة من الأسلحة التي جمعها نظام معمر القذافي في جميع أنحاء القارة الأفريقية، عقب الإطاحة به وإعدامه، في انتشار الفوضى في مالي ونيجيريا والكاميرون. الآن وقد كشفت مجموعة من الوثائق السرية البريطانية والأميركية تمت مداولاتها في محكمة قضائية بريطانية، أن لوما واسع النطاق يقع على الدولتين لتفكيكهما الأمة الأفريقية. فوفقا لهذه الوثائق والبرقيات السرية الأخرى، فإن واشنطن ولندن تورطتا في لعبة "شيزوفرينيا جيوسياسية" على مدى العقدين الماضيين.
وفي خلال التسعينات، تواطأ جهاز الأمن الخارجي البريطاني "إم آي 6" بمشاركة وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي أيه)، مع قدامى المحاربين الليبيين في الحرب الأفغانية التي شملت تنظيم القاعدة وحركة طالبان التابعة له، في الجهود المبذولة لاغتيال القذافي وإسقاط نظامه. أعدت الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة (LIFG) والضباط المنشقون من جيش القذافي خطة اغتيال/انقلاب تم تمويلها وتسليحها من لندن في منتصف التسعينات.
بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 على مركز التجارة العالمي والبنتاجون، تعاونت بريطانيا والولايات المتحدة وليبيا في تنفيذ برنامج عمليات تعذيب وترحيل سري واسعة النطاق، أدت إلى زج العديد من قادة وأنصار الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة في السجون الليبية، حيث تعرضوا للتعذيب من قِبل جهاز مخابرات القذافي، وساهم في تلك العمليات التعذيبية كل من (إم آي 6" و (سي آي أيه)، كجزء من "الحرب العالمية على الإرهاب".
وفي أواخر أغسطس 2009، قام أعضاء من مجلس الشيوخ الأميركي، جون ماكين وليندسي جراهام وجوزيف ليبرمان، بزيارة لطرابلس مجدوا فيها دور القذافي في الحرب العالمية على الإرهاب، وحثوا إدارة أوباما على استئناف تسليح النظام الليبي لمكافحة عناصر تنظيم القاعدة المتمركزين شرق ليبيا. يُشار إلى أن موقع ويكيليكس قد سرب برقية من وزارة الخارجية الأميركية في ذلك الوقت، يقول فيها السيناتور جون ماكين "إننا لم نتخيل أبداً أنه قبل عشر سنوات كنا سنجلس في طرابلس، وأن نلقى ترحيباً من نجل معمر القذافي". وأضافت البرقية أن ليبرمان وصف ليبيا بأنها حليف مهم في الحرب على الإرهاب، مشيراً إلى أنه قد يتحول الأعداء في بعض الأحيان إلى أفضل الأصدقاء".
وفي غضون 18 شهراً من تلك الزيارة الودية تحولت لندن وباريس وواشنطن مرة أخرى إلى القذافي وإلى إعادة الترتيب مع منظمة الجماعة الليبية الإسلامية المقاتلة التي كانت تؤدي دورا سريا للإطاحة بالحكومة الليبية.
في أغسطس 2011 وفي خضم الحرب الليبية بمقاتلات حلف شمال الأطلسي (الناتو) وفي أثناء تمشيط العاصمة، وتوفير كل ما ينقص المليشيات الليبية على الأرض لإسقاط حكومة القذافي، عثر نشطاء من "هيومن رايتس ووتش" على كنز من الوثائق السرية الحكومية في مبنى أحد المكاتب التي تخلت عنها حكومة طرابلس. وتضمنت تلك الوثائق برقيات متبادلة بين جهاز "إم آي 6" البريطاني وبين وكالة "سي آي أيه" الأميركية وجهاز الأمن الخارجي الليبي (LESO) الذي يماثل الـ "سي آي أيه" في سمعته السيئة. وتُشكل هذه الوثائق الآن العمود الفقري لدعوى قضائية يمكن لعشرات الليبيين الذين كانوا ضحايا برنامج الترحيل السري أن يرفعوها ضد كبار المسؤولين في الحكومة البريطانية، بمن فيهم وزير الخارجية السابق جاك سترو.
لقد تم اختطاف اثنين من هؤلاء الضحايا، عبدالحكيم بلحاج وسامي السعدي، في تايلاند وهونج كونج، وتسليمهما إلى ليبيا مع أسرهم، لتعريضهما للتعذيب من قِبل منظمة الأمن الخارجي الليبية (LESO) والمحققين البريطانيين. وقد تحالفت "سي آي أيه" مع جهاز الأمن الخارجي الليبي في تنفيذ عمليات التسليم.
ووفقاً لريتشارد ديرلوف، الذي ترأس جهاز "أم آي 6" في ذلك الوقت، فإن جميع العمليات التي نفذها جهازه وافق عليها كبار الوزراء في حكومة توني بلير. ويُشار إلى أن الاجتماع الأول بين المسؤولين في "إم آي 6"، الذين كان من بينهم السير مارك ألين ورئيس جهاز الأمن الخارجي الليبي، موسى كوسا، عُقد في غضون أسبوع من هجمات 11 سبتمبر الإرهابية على أميركا. وفي مارس 2004، قام رئيس الوزراء البريطاني توني بلير بزيارة المصالحة الشهيرة إلى طرابلس لاحتضان القذافي، وإعلان عودة شركة "رويال داتش شل" لحقول النفط البحرية الليبية.
وقبل تسع سنوات شارك جهاز "إم آي 6" البريطاني مع الجماعة الليبية الإسلامية المقاتلة التي تضم نحو 500 من قدامي المحاربين الليبيين مع المجاهدين الأفغان، الذين خدموا تحت قيادة جلال الدين حقاني لطرد الجيش السوفيتي الأحمر من أفغانستان، في الإطاحة بالقذافي.
في عام 1995، اتصل ضابط مخابرات الجيش الليبي المنشق الذي أطلق عليه الاسم الحركي "تونورث" بجهاز "إم آي 6" البريطاني وقدم اقتراحاً لاغتيال القذافي والسيطرة على البلاد. وقد حظي اقتراحه باقتناع كوماندوز من الخدمات الجوية البريطانية الخاصة (SAS) لتدريب المقاتلين المجاهدين خلال الثمانينات.
وأكدت مذكرة سرية من جهاز "إم آي 6" في ديسمبر 1995 أن لندن كانت على علم تام بمؤامرة الاغتيال/الانقلاب المنتظرة. وكانت بريطانيا قد قدمت تمويلاً للمتآمرين، الذين وصفتهم المذكرة بأنهم "قدامى المحاربين الليبيين الذين خدموا في أفغانستان".
وكانت خطة الانقلاب تشمل اغتيال القذافي في مسقط رأسه "سرت" ثم شن التمرد المسلح بدءاً من شرق البلاد. ولقد قدمت بريطانيا الأسلحة، وتباهى ضابط جهاز "أم آي 6"، ديفيد واتسون، أمام زملائه في ذلك الوقت بأن خطة القنبلة لقتل القذافي قد نفذت من قِبل "تونورث".
لكن الخطة فشلت لأن القنبلة لقتل القذافي وضعت بالخطأ في السيارة غير المقصودة، وبالتالي أحبط التمرد. وعلى كل حال، فإن خطة مفصلة، شملت تسليح المتمردين من قِبل جهاز "إم آي 6" البريطاني وأجهزة استخبارات غربية أخرى كانت بمثابة إشارة خضراء لشن ثورة 2011 الليبية المدعومة من الغرب. وفي هذه المرة وبموافقة لندن وواشنطن وباريس، فإن عملية الاغتيال لم تفشل.