تضمنت القرارات الملكية الأخيرة إلغاء المجالس واللجان العليا في الدولة، ومن بينها مجلس التعليم العالي الذي يعتبر السلطة العليا المسؤولة عن شؤون التعليم الجامعي في المملكة، ما يعني أن نظام الجامعات القائم والمعمول به حاليا هو في طريقه إلى الإلغاء أو التعديل، فالفقرة "ثالثا" من قرار إلغاء المجالس واللجان العليا نصت على أن تتولى هيئة الخبراء بمجلس الوزراء بالاشتراك مع الأجهزة المعنية مراجعة الأنظمة والتنظيمات والأوامر التي تتأثر بالإلغاء، ووضع الترتيبات التنظيمية اللازمة لذلك، وبالتالي فإن الجامعات في المرحلة القادمة مقبلة على نظام جديد أو معدل، وهو ما أحدث شيئا من التفاؤل بين النخب الأكاديمية في المملكة باعتبار أن هذا التغيير يمثل فرصة لإصدار نظام جديد للجامعات يقوم على منح الجامعات الاستقلالية والإدارة الذاتية والتنظيم الخاص.

والواقع أن موضوع تطوير نظام الجامعات ومنحها الاستقلالية الإدارية والتنظيمية ظل هاجسا يراود النخب الأكاديمية والفكرية، فالجامعات هي معاقل العلماء، ومراكز البحوث والدراسات، ومنارات التحديث والتنمية، ومشاعل الإبداع والابتكار، ومصانع الموارد البشرية المؤهلة، فالجامعات شريك أساسي في صناعة الحاضر وقراءة المستقبل، وهي أداة رئيسة في مشروع الإصلاح والتنمية والتنافس الحضاري والاقتصادي، لذلك لم يكن غريبا أن تستمر النقاشات والحوارات بين النخب العلمية في المملكة وعلى مدى السنوات الماضية في الحديث عن أهمية وضرورة تطوير نظام الجامعات، وفك ارتباطها المباشر بوزير التعليم العالي الذي يرأس - بحسب النظام الملغى - إدارة مجالس كل الجامعات في المملكة، ومنحها الصلاحيات الكافية لإقرار أنظمتها الداخلية ولوائحها التنفيذية وخياراتها العلمية والبحثية، وقبل سنوات ناقش مجلس الشورى إصدار نظام جديد للجامعات لكنه لم ير النور، والآن تبدو الفرصة مواتية لتبني نظام جديد للجامعات يخلصها من ربقة الارتباط المباشر بوزارة التعليم العالي، ويمنحها الاستقلال التنظيمي والإدارة الذاتية، ويفتح لها آفاق التميز والإبداع والتفرد، فالتعليم العالي في المملكة الذي حقق في السنوات الأخيرة قفزات كمية ضخمة تمثلت في الانتشار العددي للجامعات في مناطق المملكة كافة، وإنشاء البنية التجهيزية المتقدمة يعاني على مستوى الإدارة والتشغيل تشوهات تمس بنيته التنظيمية. فالجامعات التي يفترض أن تكون بيوت خبرة ومعرفة في المجالات العلمية والمهنية لا تختلف في ثقافتها التنظيمية، وبيئاتها الإدارية، ومعاييرها التفضيلية في المناصب العلمية والإدارية عن بقية القطاعات الحكومية، بل إنها تحولت ومع الإنفاق الهائل الذي تقدمه الدولة إلى مواقع تتفشى فيها المحسوبية، والاعتبارات الشخصية، والهدر المالي، ولعل كتاب د. أحمد العيسى الذي يحمل عنوان "التعليم العالي في السعودية: رحلة البحث عن هوية"، يمثل ذروة الطرح الفكري الجاد في مناقشة واقع الجامعات المحلية وخياراتها المستقبلية.

إن المؤمل من وزير التعليم الجديد د. عزام الدخيل الذي يمتلك خلفية عريضة في الإدارة المتحررة من البيروقراطية والإجراءات الروتينية أن يعطي ملف الجامعات الاهتمام الذي يستحقه، وأن يسعى إلى بلورة خيارات إدارية ترفع من قيمة الجامعات وتحقق لها الاستقلالية التنظيمية، ويمكن في هذا المقام اقتراح إنشاء هيئة للتعليم العالي يكون وزير التعليم رئيسا لمجلس إدارتها بحيث تتولى الهيئة وضع وإقرار الأنظمة واللوائح والسياسات العامة للجامعات الحكومية والأهلية، أي أن تتولى وضع وإقرار الخطوط والمحددات العريضة، وتترك للجامعات فرصة التنافس في وضع أنظمتها الداخلية، وصناعة هوياتها العلمية، وشخصياتها الأكاديمية، ومواطن تميزها، ومساحات اختصاصها، بحيث يكون الرهان والتنافس بين الجامعات على الجودة والنوعية والبحث والنشر العلمي واستقطاب الأساتذة المميزين في مجالات تخصصاتهم، وتخريج الطلاب والطالبات المبدعين.

إن واقع الجامعات السعودية في جانب الإنشاءات والتجهيزات - وبفضل الإنفاق الكبير من الدولة - حقق مستويات عالية، فالجامعات تتوافر على مقرات وتجهيزات تعليمية متقدمة، لكنها في الجانب الإداري والثقافة التنظيمية لا تختلف عن مدارس التعليم العام، فهي محكومة بنظام واحد لا يسمح لها بالحركة الإدارية والمرونة التنظيمية، ويحد من مساحة الحرية العلمية، والمنافسة البحثية، والمساهمة في خدمة المجتمع، والمشاركة مع قطاعات الأعمال.

لعل خطوة إلغاء مجلس التعليم العالي تمثل بداية الانطلاق لرسم واقع جديد للجامعات السعودية، خاصة في ظل تجربة جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية التي تمضي في طريق تحقيق أهدافها العلمية الطموحة دون أن يكون لاستقلالها التنظيمي أي أثر سلبي من أي نوع كان.