نجد اليوم أننا نواجه تحديات من النوع الذي يحتاج تفهما وإدراكا لاحتياجات الآخرين أكثر من أي وقت مضى، قرارات تتخذ من قبل القلة تؤثر في مسار حياة الأغلبية، كيف لهذه الأغلبية أن يُسمع صوتها إن كان من يضع القوانين غير مستعد أن يصغي؟! إن الزمن قد تغير والكثير أصبح يتوقع بل يطالب أن يكون له رأي في القضايا التي تؤثر في حياته ومستقبل أسرته، بل منهم من يجنح إلى طرق تعطل تنفيذ القرارات بطرق شتى إن لم يفسح لهم المجال في المشاركة، هذا لا يعني أن من يتخذ القرار على خطأ أو حتى على صواب، ما يعني هنا أن ثغرة ما قد تخلق وقد تتسبب بمشاكل لم تكن في الحسبان، كان بالإمكان تفاديها لو أن كان هنالك حوار؛ ليس محادثة أو نقاشا أو حتى مناظرة، كلمة السر هنا هي "حوار"، لماذا الحوار؟ لأنه يبدأ باعتراف بالآخر ككيان مؤثر له احتياجات وله تطلعات بحاجة لمن يفهمها، وأن كل فرد لديه فكرة أو رأي أو وجهة نظر قد تسهم في بناء القرار السليم الذي يخدم مصلحة الأغلبية.
نعم إلى وقت قريب لم نكن نسلك الحوار لأن حسب مجريات الأحداث التي كانت متوقعة ومقبولة عند الكثير هي تنفيذ الأوامر دون نقاش، الإدارة في المدرسة تصدر القرارات والهيئة التعليمية تنفذ، المعلم يعطي الأوامر والطالب ينفذ، ولي الأمر يطلب والأبناء ينفذون، صاحب العمل يقرر والموظف ينفذ، لا نقاش ولا حوار ولا حتى مراجعة، لم يكن في قاموس التواصل والتفاعل أي شيء يشير إلى تفهم الآخر كإنسان له تطلعات واحتياجات وتحديات، ولكن اليوم غير الأمس!
قد يعرقل الحوار انعدام الثقة أو المفاهيم والرؤى المسبقة التي تشكلت عند أفراد كل مجموعة، أو الاختلاف في المصالح والتوجهات، لكن ما يفشل الحوار هو عدم معرفة مهارات الحوار وبالتالي يتحول إلى مسار آخر بعيدا عن المقصد الرئيس من انعقاد جلساته، المطلوب هنا ليس التناغم واللعب على نفس الوتر، بمعنى ألا نجلس إلى طاولة الحوار لنُسمع الآخر ما يود سماعه ثم نستدير ونفعل ما نريد، المطلوب هنا هو الإصغاء من أجل فهم الآخر وإعطائه الفرصة للتحدث دون خوف أو حرج، وبالتالي سيفتح المجال لاتخاذ قرارات أكثر إنسانية واتساقا مع احتياجات هذا الآخر، لا يكفي أن نطّلع على ما ينشر في الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي، ولا يكفي الاستعانة بالدراسات واستشارة الأساتذة والمختصين. الضلع الثالث هو الحوار مع أصحاب الشأن، فمثلا إن أردنا للتعليم العام أن يرتقي في بلادنا وأن نغطي الثغرة بينه وبين التعليم الجامعي، فيجب أن تُجرى جلسات حوار بين الهيئة الأكاديمية في الجامعات والهيئة التعليمية في المدارس على مستوى المناطق والإدارات، ومثلها بين أولياء الأمور والإدارة العليا في وزارة التعليم، وأيضا بين منسوبي كليات التربية والهيئة التعليمية والوزارة، إضافة إلى جلسات حوار بين منسوبي الوزارة والطلبة، إن لم نخرج بشيء على الأقل سيتعرف كل فريق على ما لدى الآخر من أولويات وتحديات ومخاوف، كما سيسهم في تفهم واحترام وجهات النظر على اختلافها وتعددها، والأهم إعادة بناء الثقة والأمل حول الآفاق المستقبلية للتعليم بدءا من إعداد المعلم إلى المناهج إلى البنية التحتية إلى القرارات الإدارية على جميع المستويات.. إلخ. يجب أن يكون التركيز على أن تُجرى هذه الحوارات بشكل مكثف وبمجموعات مختلفة؛ قد تكون رسمية أو غير رسمية، على مجال ضيق أو واسع، في بيئات وظروف مختلفة، فالعمل على تفعيلها سينجح في تحويل العلاقات بين أفراد كل شرائح المجتمع التعليمي من متنافرة، وهذا أحد معوقات المسيرة التعليمية، إلى شرائح متعاونة تنطلق من أرضية التفاهم والاتفاق على الأهداف والرؤى وسبل تحقيقها.
كم نحن بحاجة اليوم إلى مهارات الحوار بين مختلف شرائح المجتمع وعلى جميع المستويات والخلفيات، ليس فقط لأن ما يجمعنا تعرض لكثير من الهجوم والتشويش، ولكن أيضا لأننا نعيش في عصر الماديات والمصالح الذاتية التي خرقت اللحمة الاجتماعية وأبعدتنا عن بعضنا البعض، إلى أن بتنا لا نشعر أو نتفهم معاناة الآخر إلا إذا بدا أنه سيؤثر في حياتنا الشخصية! لقد اتسعت الفجوة بيننا لدرجة أنه إن اقترب أحدهم منا نسارع بالتساؤل عن الغاية من وراء هذا التحرك، ونبدأ في تحليل النوايا ووضع الفرضيات، ثم نأخذ وضعية التأهب للهجوم عند أول بادرة تبدو لنا على أنها غير واضحة، وبالتالي نعتبر أنها في غير صالحنا! لم نعد نصغي لنفهم لأننا لم نجد من يصغي إلينا، فلا نقوم بأي مجهود من أجل فهم الآخر، فظهرت الفجوة بيننا، وعليه وجب التعامل مع هذه الفجوة بكل جدية، علينا أن نعيد بناء خطوط التواصل الإنساني من أجل التفهم والتقبل والعمل على المشاركة في إيجاد الحلول، وأفضل الطرق هو الحوار لإعادة غرس الانتماء من أجل المشاركة في البناء، وبالتالي هدم جدران التشاحن والتفرقة قبل أن تتكاثر ونصبح غرباء تحت سماء واحدة! إذاً من يستحق الحوار؟ الوطن!