بمجرد استعادتنا لشيء من هدوء النفس بعد الصدمة العنيفة التي انتابتنا جراء مشاهدة حرق الطيار الأردني الأسير عند "داعش" معاذ الكساسبة، بدأ التشكيك يدور من قبل بعض المختصين الإعلاميين والمراقبين حول صحة هذا المقطع، وأنه مفبرك بطريقة احترافية، وأن "داعش" لا تستطيع أبدا – وهم الهمج المتعطشون للدماء- أن ينتجوا مقطعا سينمائيا عالي الدقة بمثل الذي رأينا، ولا تزال مقالات التشكيك تمطر جوالاتنا ومواقع التواصل الاجتماعي لليوم.

من المهم معرفة قدرات عدوك إن أردت الانتصار، ويميل كاتب السطور إلى أن المقطع صحيح، ومن إنتاج "داعش" تحديدا، الذين أوصلوا عبره رسائل عدة، وأنا أتفهم تماما وجهة نظر أولئك الذين شككوا في المقطع، خصوصا الاستسلام التام من قبل الطيار الأردني الأسير، وهو الذي تلقى تدريبات عالية على مقاومة آسريه، وليس مدنيا يمكن أن يرضخ بهذه السهولة، والمقطع صوّر معاذا وهو يتقدم بخطوات متئدة هادئة، أمام جنود "داعش" المصطفين في طابور عسكري مهيب. تكمل اللقطة "هوليوديتها الاحترافية"، حيث يتوقف معاذ، ويتلفت، ويرفع رأسه، ويمشي، ثم يتوقف، وأثناء ذلك العرض، تسمع الأناشيد الجهادية الحماسية التي تخص "داعش"، مع لقطات لآثار القصف الذي تعرضت له مناطق "داعش" من قبل طيران التحالف، والتركيز على مناظر الدمار والقتلى – في رسالة أخرى- كسبا لتعاطف المشاهدين، وأن العين بالعين.

فجأة تنتقل بنا الكاميرا للقفص الحديدي، فيما كان معاذ واقفا بداخله مطأطأ الرأس، ليرفعه وقتما يضرم أحد قادة "داعش" النار من بعيد، وتنتقل – كمشاهد أفلام سلفستر ستالوني في "رامبو"- بسرعة إلى القفص، وأنت لا تصدق أبدا أبدا أن يفعل مسلمون أو حتى بشر هذا الفعل حقيقة، بيد أنك تفاجأ بالنار تشتعل بمعاذ وهو في بدلته البرتقالية – لها رسالة أيضا وصلت لجوانتانامو- الذي في البداية وقف لها ولم يتحرك وهي تشتعل فيه، وهذا ضد الفعل البشري تماما، أعسكريا كان أم من قوات الصاعقة حتى أم من "المارينز"، فلا بد أن يتحرك الإنسان مباشرة حال مسّ النار بدنه برد فعل غريزي، إلا أننا وجدنا الطيار المحترق، يتلوى بعد عدة ثوان طويلة. ويكمل منتجو المقطع تلك الصور البشعة، بجرافة ضخمة تهيل الحجارة الكبيرة على القفص، لتسحقه بالجثة المسوّدة وتساويه بالأرض، في مشهد درامي صادم، يقف لها شعر الإنسان السوّي، فيما تنتاب ذوي المشاعر المرهفة صدمة نفسية لمّا يفيقوا منها للآن.

ما جعلني أتردد في قبول ذلك المقطع هو الرضوخ التام من قبل الطيار الأردني، وعدم شعوره بألم الحرق، بيد أن الحيرة تزول عندما أفصحت عناصر تابعة لـ"داعش" أن ذلك التنظيم قام بإعطاء الطيار الأردني كميات كبيرة من المخدر، للتأكد من قتل إدراكه لما يجرى حوله، وإفقاده القدرة على التفكير أو التصرف، أو حتى القيام بأي حركة يمكن أن تفشل التصوير. وعلق المراقبون على كلام عنصر "الدولة" بقولهم: "من الغايات التي يريد أن يصلها تنظيم الدولة من المخدر، وإن كان سببا ثانيا وليس أولا من حيث الأهمية، فهو إظهاره وكأنه نادم ومدرك لخطئه، لدرجة أنه قَبِلَ بالعقاب، ما جعله ينتظر الموت والنار دون أن يصرخ أو يفكر بما ينتظره، أي الاستسلام المطلق للحكم.

"داعش" يتوافر على أعداد هائلة من المحاربين الغربيين أو أولئك الذين ولدوا وترعرعوا في الغرب، يقدر عددهم الخبير بالجماعات الجهادية مروان شحاذة بـ15 ألف مقاتل انضموا لهم، وفيهم من هو متخصص في السينما والإعلام، هم الذين قاموا بإنتاج هذه المقاطع الاحترافية، والتنظيم يولي أهمية فائقة للإعلام ويصرف الملايين عليها، عكس أسلافهم في أفغانستان الذين كانوا ينتجون مقاطع هواة، تتلقفها قنوات "الجزيرة" وتبثها، أو حتى في العراق الذين كانوا يصورون عمليات التفجير أو القتل بطريقة بدائية بسيطة، تنتشر بعدها في الإنترنت، بيد أن "داعش" عكس أولئك، فهي أولت الإعلام أولوية مطلقة، ويقول علي صوفان عميل المباحث الفيدرالية الأميركية (الإف بي أي) السابق، الذي لعب دورا هاما في إلقاء القبض على مدبّري هجمات 11 سبتمبر، في حوار أخير له مع مجلة شبيجل الألمانية: "العاملون في المجموعة على دراية كبيرة بوسائل التواصل الاجتماعي، ويعرفون جيدا كيف تُدار دفتها، فهم يتسمون بالذكاء الشديد في التواصل مع هذا الجيل، ويستخدمون وسائل عدة بحسب المنبر الاجتماعي وأين ينتشر بكثرة، فهم يستخدمون "تويتر" في الخليج مثلا، ولكن في سورية يستخدمون "فيسبوك".

المجموعة لا مركزية بشكل كبيرة وهذا أمر مثير. "داعش" هي المنظمة الأولى من نوعها التي تعي وتدرك أهمية وسائل التواصل الاجتماعي".

كنت في حيرة حيال سرعة تناقل أخبار "داعش" ومقاطعها، لتصل مطالعتها في يوم واحد إلى ستة أصفار من المشاهدات، وكنت أقول أية آلة إعلامية تمتلكها "داعش" وهم بضع عشرات من الآلاف في الجبهة، غير أن عميل المباحث الأميركية صوفان يجيب على هذه الجزئية بقوله: "نحن على علم بجيش من المدونين والكتاب والمتفرغين لمتابعة الإعلام الاجتماعي الذين يعملون لصالح "داعش". طبقا لاستقصاءاتنا، معظمهم في الخليج أو شمال أفريقيا.

بدأت تلك الجهود عن طريق أبو عمرو الشامي، سوري مولود في السعودية، ونحن على علم الآن بأن هناك 12 ألف حساب تويتر، في وقت ما، كانوا مرتبطين بـ"داعش". هذه واحدة من الأساليب التي تستخدمها: اللامركزية في الدعاية. لقد وسعّت "داعش" من التحكم في رسالتها وخطاباتها بالتخلي عن التحكم في من يرسلها ويستقبلها. هذا أمر جديد جدا علينا".

ولكن السؤال لإعلامي مثلي كيف يمكن التصدي لهذه الآلة الإعلامية الضخمة، فكل طرائقنا الوقائية في محاربتهم، سواء في الفكر أم الإعلام، باءت بالفشل بسبب هذه الثغرة الكبيرة التي ينفذون منها، ويلجون لفكر شبابنا السعودي والعربي عبره، بيد أن الرجل يزيد الأمر علينا ضغثا على إبالة ويفجعنا – ونحن عقدنا الآمال على العم سام بإمبراطوريته الإعلامية أن يساعدنا - بأنهم حائرون مثلنا، إذ قال: "لا نملك خطة واضحة لمواجهة خطاب "داعش". في عام 2004، كان هناك 400 مقاتل يأتمر بأمر بن لادن. الآن تملك داعش الآلاف من المقاتلين والأتباع حول العالم. يُعَد هذا فشلا ذريعا لحربنا على الإرهاب".

أرجح أن مقطع حرق الكساسبة صحيح، ولدي الكثير عن وسائل إعلامهم ومجلة "دابق" و"الشامخة" التي تصدر بخمس لغات عالمية، فضلا عن مؤسسة الخلافة، ومؤسسة أجناد للإنتاج الإعلامي، ومؤسسة الغرباء للإعلام، ومؤسسة الإسراء للإنتاج الإعلامي، ومؤسسة الصقيل، ومؤسسة الوفاء، ومؤسسة نسائم للإنتاج الصوتي، والقوم لا يلعبون، وعبر الإعلام استطاعوا إفشال كثير من حربنا الفكرية الوقائية، وعليه يجب أن ننتبه إلى هذه الثغرة الكبيرة في حربنا على "داعش".

حرب الإعلام لا تقل أبدا عن الحرب العسكرية.. وصدقوني، في حال "داعش" لها الأولوية.