يؤرخ لعصر "الانحطاط" الثقافي في الفترة الذي تلت السقوط الفعلي لبغداد عاصمة الدولة العباسية على يد التتار، وحتى الحملة الفرنسية (نابليون) على مصر، وهي الفترة التي وقعت فيها المجتمعات العربية تحت سلطة المماليك ثم العثمانيين، لعدة قرون مضت، قبل أن تقع هذه المجتمعات تحت سلطة الاستعمار الأوروبي الحديث، وخلال هذه الحقبة انتشر الجهل بكافة أشكاله في معظم المجتمعات العربية بشكل كبير، بينما كانت أوروبا تعيش نهضتها الحضارية والفكرية.

لكن الأوروبيين لم يكونوا سابقاً في مأمن من عصور الظلام، وهي المرحلة المسماة بالعصور الوسطى، التي عاشت فيها أوروبا حروباً دينية خارجية (الحملات الصليبية) وحروباً داخلية كانت دوافعها مذهبية/دينية ودوافعها المضمرة اقتصاد وسياسة، فالصراع الطويل بين الأرثوذكس والكاثوليك تفرع والذي نتج عنه الانقسام بين روما وبيزنطة مبدئياً، وما تبعه ذلك لاحقاً من انقسامات أهمها العداء البروتستانتي الكاثوليكي، ومرحلته الدامية المعروفة بحرب الثلاثين عاماً؛ غير أن المتأمل يجد أن الصراع الاقتصادي السياسي الصريح في أوروبا تجدد بل فاقَ الصراع الطائفي، ومن أهم الأمثلة على ذلك حرب المئة عام بين إنجلترا وفرنسا.

لكن أوروبا-رغم كل ذلك- كانت تتقدم ويتأخر غيرها، نتيجة للانشغال بالسيطرة على الاقتصاد من جهة، ومن جهة أخرى تقدم الفكر والثقافة ورفض السلطة المطلقة للكنيسة؛ نتيجة لحالة "التثاقف" بعد الاحتكاك بالثقافات الأخرى ومن أهمها الثقافة العربية في الأندلس، وكذلك نتيجة لحالة الهوس الاقتصادي التي أعقبت حركة "الكشوف الجغرافية"، حيث وجد الأوروبيون أنفسهم منتشرين في كل أنحاء العالم من أجل السيطرة على الاقتصاد العالمي، ومن أهم ظواهر هذه السيطرة إنشاء عدة دول أوروبية لشركات خاصة بها لمزاولة التجارة في الشرق، أو بعبارة أخرى لشراء الشرق، وهي الشركات الأوروبية التي أسست لتكون شركات استعمارية تحقق السياسات الاقتصادية للدولة، والتي عرفت بـ"شركة الهند الشرقية"، التي أسستها بريطانيا بداية عام 1600، وتبعتها هولندا بتأسيس شركة تحمل الاسم نفسه عام 1602، وتبعتهما في هذا النهج الدنمارك والبرتغال وفرنسا والسويد، وأشعلت الحروب التجارية بين هذه الشركات جذوة الحروب الفعلية بين الدول، ونشأت التكتلات العسكرية والصراعات المدعومة بالأعمال الثقافية و"التبشيرية" والعمل الخيري، وكانت هذه الصراعات على الاقتصاد في مناطق النفوذ قد كونت البيئة الخصبة للحربين العالميتين اللتين بدأتا من أوروبا واستعرتا في مناطق النفوذ بمختلف قارات العالم التي اتخذها الأوروبيون ميداناً لصراعاتهم الاقتصادية والسياسية، لأسباب تبدو لنا أحياناً تافهة، أو ربما مجنونة، لكنها بالنسبة لهم في وقتها مبررة.

ولم تتوقف الحرب في أوروبا، عند انتهاء الحرب العالمية الثانية التي حصدت ملايين البشر، إذ كان تفكك جمهوريات الاتحاد السوفييتي عام 1990 بداية اندلاع للحروب في جمهوريات وفاتحة لاندلاع الحرب في البلقان، حيث جمهورية يوغسلافيا الاتحادية، والتي انتهت بتدخل دولي، قسمت بموجبه أجزاء الجمهورية على أسس عرقية، بعد أن حصدت الحرب مئات الآلاف من البشر من كافة الطوائف والأديان.

وعلى هذا الأساس فإن التجاذبات الدولية التي يعيشها العالم اليوم لن تتوقف، ولن تتوقف الدول عن البحث عن مصادر جديدة لاقتصادها، كما لن يتوقف مستثمرو وتجار الحروب عن فعل أي شيء يحقق مصالحهم، فدول العالم الأول بعد تجارب مريرة تسعى إلى إبقاء مجتمعاتها آمنة في دولها، حيث يحق للأقاليم فيها تقرير مصيرها ديمقراطياً إذا ما قررت الانفصال عن الدولة الاتحادية، ولكن هنالك وجه آخر للديمقراطية، حيث تسعى الأنظمة السياسة إلى الاستثمار الاقتصادي من خلال نظرية "التفريغ" الخارجي، وهو ما يحدث اليوم في مناطق متعددة من العالم، على الرغم من أن هذه الأنظمة تقرر بلا جدل أن "المدنية" هي الشكل الأفضل للاستقرار الشامل داخلياً، بينما تسعى إلى إذكاء فرص الحرب خارجياً، فكلما زاد عدد الخاسرين ازدادت فرص الربح!

وإذا كان الأمر كذلك، فإن المواجهة المرشحة لتحقيق المكاسب هي الطائفية، فالمتعصبون غالباً ما يوقدون نار "الأيديولوجيا" على حطب التاريخ، وما كانت منطقة الشرق الأوسط بمنأى عن هذه النار الحارقة، التي كل ما خمدت عادت للاشتعال من جديد بدوافع سياسية، محصلتها النهائية مجتمعات مقسمة ومفتتة تعترك اليوم في ساحة التاريخ.