صدم العالم أجمع، بما فيه العربي والإسلامي، بحدث إحراق الطيار الأردني: معاذ الكساسبة، لشناعة الفعل المتأسس على وحشية داعش المعروفة في طريقة تنفيذ عملياتها، وقتلها للآخرين والحرص على تصويرها، وبثها للعالم، مما يرسم صورة مرعبة لتنظيم داعش، وربما نجحت جزئيا في ذلك في استحلالها مناطق واسعة من العراق وسورية، وبث الرعب في قلوب أهاليها، فالأحكام التي تنفذها داعش وتصفها بالشرعية تتسم بنوع من التطبيق الحرفي لبعض الحدود كجز الرؤوس، أو إلقاء أحد ممارسي الفاحشة من أعلى شاهق، أو رجم امرأة، أو غيرها من الأحكام التي لها أصل في التراث ويحرصون على تطبيقها بحرفيتها وفق محكمة خاصة لديهم لا تخضع إلا للأعراف التي تطبقها داعش، وربما طبقتها جماعات أو دول أخرى لكن بشكل أخف ومن غير تصوير، مما يجعل من داعش يتفردون بهذه الوحشية في تطبيق أفكارهم إلى الدرجة التي انعدمت معهم كل أشكال الإنسانية، إلى حد أنهم بدؤوا يدربون الأطفال على مثل هذه العمليات من نحر وتفجير وغيرها.
وبغض النظر عن الشكوك التي صاحبت فيديو إحراق الطيار الأردني في طريقة فلمنتها ومنتجتها بالطريقة السينمائية، وهي شكوك في محلها، إلا أن ما رافق انتشار الفيديو هو ذلك الجدل الذي كان حول شرعية الإحراق من عدم شرعيته، وراحت الأطراف المتنازعة من التيارات السياسية تخوض في جدالها، في نشر الكتابات التي ترى شرعية ذلك والكتابات التي تدينها، وغالبها كان من التراث، هذا غير أن التيار الإسلامي مختلف حول هذه القضية، ما بين تطرف يقبل بها واعتدال يرفضها، ولا تزال القضية معلقة لم تحسم بين الأطراف، وكأن إحراق إنسان هو من قبيل القضايا التي يمكن الاختلاف حولها.
هذا من جهة، من جهة أخرى راح عدد من الناس يخوضون في القضية نفسها من رؤية سياسية إنسانية، فمع إدانتهم لإحراق الطيار من قبل داعش ذهبوا في القضية إلى مسألة التذكير أن العالم لم يتلفت إلى أطفال سورية الذين أحرقتهم قوات الأسد أو حادثة رابعة في مصر، أو قصف القوات الأميركية للعراق أو مجازر إسرائيل بحق الفلسطينيين، وهذه أحد أهم المبررات التي يتكئ عليها داعش كذلك إلى جانب اعتمادهم على التراث والتاريخ الإسلامي في مسألة الإحراق. وإذا كان من المهم إدانة أي عنف تمارسه أي دولة، إلا أن الوضع يختلف من أربع جهات: الأولى: أن الدولة الحديثة تمارس عنفها وفق الشرائع الدولية حتى وإن كانت تلاعب فيها أحيانا وتتكئ على معطيات يمكن أن توضع كثيرا من المبررات الدولية لهذا العنف مما يجعل العنف في السياق السياسي والدولي مقبولا، إلى حد ما، وإن لم يقبل إنسانيا، الأمر الذي يجعل عددا من الشعوب يقوم بمظاهرات ضد السياسية الخارجية لدوله. الثانية: أن الممارسات التي تقوم بها الحروب تخضع وفق معايير دولية ومن الصعوبة أن تتجاوزها تلك الدولة المحاربة أو تلك، فمشاهد التعذيب لا يمكن أن تقبل، ونحن نتذكر كيف تمت إدانة الجنود الأميركان في سجن أبوغريب، كما الحرب تذهب لحاملي السلاح دون غيرهم من المدنيين، وهذا الأمر وإن كانت فيه تجاوزات كثيرة إلا أنه يكون من قبل المطمورة إعلاميا لتظهر الدول وكأنها تحترم القوانين الدولية. الثالثة: أن الدول بكافتها لا تحرص إلا على إظهار صورتها الإعلامية وكأنها جاءت لتحرير الشعوب إعلاميا، والعنف لا يمكن أن يصور ويبث خلاف ما يفعل تنظيم داعش من حرصهم على تصوير مشاهد العنف من قطع للرؤوس وإحراق للناس، لذلك فإن احتكار العنف من قبل الدولة، وليس الأشخاص، هو المعمول به عالميا، وهذا ليس تبريرا لعنف الدول وإرهابها، وإنما هي مقارنة بين سلوكين كلاهما يتسمان بالعنف، وكلاهما، كذلك، مدانان من قبل منظمات حقوق الإنسان، سواء جاء من تنظيمات أو دول، الثالثة: أن عنف داعش يطرح بوصفه تطبيقا للدين الإسلامي الذي لا يخص داعش، وإنما يخص مليار مسلم متوزعين على الكرة الإسلامية ويسيئهم أن تطبق هذه الوحشية باسمهم وباسم دينهم، في حين أن عنف الدولة لا يخص إلا الدولة نفسها دون الدول الأخرى التي تشترك معها في الدين والمعتقد.
لقد اتكأ الداعشيون في غالب عملياتهم على التراث في تبرير سلوكهم بما فيه قضية الإحراق، والتراث يسعفهم، أحيانا، لضخامته ما بين تطرف واعتدال، فيتم نبش المقولات التي تتوافق مع طرقهم في عملياتهم ليجدوا أرضية فكرية ودينية يمكنهم الاعتماد عليها، وهذا ما يربك كثيرا من التيارات الإسلامية التي صنعت رؤية مثالية عن التاريخ والتراث، وحرسته طويلا من أي عملية نخل ثقافي وفكري أو إعادة قراءة تاريخية لكثير من مقولاته، فالفتوى التي ظهرت في جواز التحريق بالنار في حادثة الطيار تبرز الاعتماد على عدد من الأسماء التراثية دون قراءة سياقية لتراثهم.
وفي خضم هذا الجدل يبدو أن مفهوم التحريق بالنار إشكالية حقيقية في فكر الخطابات الإسلامية، ففي بحث منشور على أحد مواقع الجامعات السعودية يبرز الباحث أدلة محرمي التحريق بالنار وأدلة القائلين بالجواز في حوالي سبع مسائل: تحريق الأعداء في الجهاد، تحريق أموالهم، تحريق المرتد، تحريق البغاة، التحريق في حد اللواط، التحريق في القصاص، وتحريق الحشرات، ويبدأ الباحث في سرد أوجه التحريم والجواز عند القائلين بهما ثم يخلص إلى "أن التحريق بالنار لا يجوز إلا من السلطان إذا رأى المصلحة تقتضي ذلك نكاية أو معاملة بالمثل، أو لمن فعل أمرا منكرا، والشجر كذلك، وأما الحيوان فلا يفعل به ذلك، لأنه مثلة وتعذيب بلا فائدة، إلا إذا استعمله الكفار في العدوان على المسلمين ولم يوجد بد من التحريق" (راجع موقع جامعة أم القرى بعنوان التحريق بالنار).
إن الأرضية الفكرية والدينية التي يتكئ عليها التنظيم لم تأتِ من خارج الإطار التراثي، لذلك فمن المهم إعادة النظر في هذا التراث، وليس مفيدا لنا تبرئة التراث من أفعال التيارات الجهادية، فنقد الأرضية الفكرية أهم بكثير من نقد داعش حتى لا يتكرر لدينا دواعش آخرون بأشكال أخرى.