رأى العالم كله الفعل الوحشي الذي قام به "داعش" بحرق الطيار الأردني، ولك أن تتخيل كيف استقبل العالم هذا التصرف من عصابات تحمل اسم دولة الإسلام وخليفته!
سمعنا الكثير من الإدانة والإنكار، والسؤال هو؛ هل هذه الطريقة منكرة لدينا بكل أطيافنا؟ هل التيارات الدينية التي تعيش بيننا تدين فعلا ذلك الفعل؟ لم يعد بإمكان أي شخص إخفاء ما يريد، فمجتمعاتنا موجودة بكل تفاصيلها في وسائل التواصل الاجتماعي، وأي شخص يستطيع أن يقيس ردود الفعل والآراء من خلال تلك الوسائل المفتوحة للجميع.
لا يمكن لنا أن نخفي أن البعض بيننا يجيب بأن الدولة الفلانية أو أفعال بشار وأعوانه يفعلون ويفعلون! ويستعجب البعض كون هؤلاء يظهرون وكأنهم يدافعون عن ذلك التصرف! وفي الحقيقة لو قمنا باستطلاع رأي حر بين الطبقة غير المثقفة من الناس العوام بالإضافة إلى المتدينين حول رأيهم عن "داعش"؛ فإن النتيجة قد تكون صادمة حول مدى نسبة التعاطف مهما كانت قليلة! ولكن ما هو السبب؟ هل هو تأييد لتلك الأفعال؟ لا أعتقد ذلك، ولكن السبب بشكل مباشر هو التعاطف مع أي مجموعة ترفع شعار الإسلام مهما كانت تصرفاتهم وعواقب أفعالهم، فهم غالبا لا يدركون أصلا ما هي العواقب!
الأمر الآخر هو أن بعض التيارات الدينية نجحت في ترسيخ الكثير من المبادئ العاطفية مثل نصرة الإسلام والجهاد وحرب الأعداء وغيرها من الأفكار التي تدعو إلى الحماسة والمقاومة والنصر والقوة، وهي أهم أسباب قوتهم في حشد الأتباع ربما، ولكن عدد من تلك التيارات لا يؤمن بالمبادئ الإنسانية الحديثة ولا تعني له شيئا في بعض الأحيان! ولذلك وجدنا الجدل الذي حصل بعد حادثة الحرق الوحشية، فقد بدأ البعض في الحديث عن الجدل الفقهي الفلسفي؛ هل يجوز مقابلة العدو بالفعل نفسه كاستخدام الحريق ونحوه أم لا؟ وأخذوا يتحدثون عن آراء الفقهاء الفلسفية المجردة، وبعضهم جاء بنقل مجرد عن ابن تيمية أو غيره حول المسألة.
فالموضوع لا يعني فيه إلا مجرد رأي الفقهاء التقليدي فقط، وكأن العالم لو احترق كله لا شأن لهم به! فقط هل رأي فلان أو عِلّان في إحراق العدو بالمقابل يجوز في رأيه أو لا! بينما لو كانت النتيجة قنابل نووية وقتل البشرية فلا شأن لهم بها! للأسف هذه طريقة تفكير بعضنا، وهي ناتجة من حالة الجدب والفقر الثقافي والحضاري لدى مجتمعاتنا التي تنشأ فيها هذه التيارات! (والصورة ستتضح أكثر مع آخر المقال).
ولكي يكون الكلام متوازنا ولا يُفهم خطأ؛ فيجب أن نذكر هنا أن التيارات التي تعمل في ميدان العمل الإنساني في مجتمعاتنا هي في الأعم الأغلب التيارات الدينية، وهم روّاد العمل الخيري، ويكاد يندر أن يشارك فيه غيرهم نظرا للعديد من الأسباب لا داعي لنقاشها الآن، ولكنها تخلط في عملها بين الدعوة إلى الدين الحنيف والعمل الإنساني، وهذا بلا شك عمل شريف وعظيم، ولكن للأسف أن بعضنا ينسى الكثير من المبادئ الإنسانية لمجرد عواطف عارضة.
من أجمل ما في الحضارة المعاصرة؛ أنها قربت بين الشعوب والثقافات المختلفة، وأزالت الكثير من الحواجب بينها، وفي أثناء ذلك؛ نمت العديد من المبادئ الإنسانية غير المرتبطة بعنصر أو دين أو عرق، وهذه المبادئ في كثير منها تكون في صالح البشرية باختلاف أعراقها وأديانها، مثل مبادئ العدالة والإنسانية والحرية والمساواة وحق تقرير المصير والرفق وحقوق الإنسان وحقوق المرأة وحق المواطنة، وغيرها من المبادئ التي تصب في صالح أنسنة العالم ووضع خطوط حمراء يجب ألا يتجاوزها في حال الخلاف مهما كان (بغض النظر عن سوء استخدام بعض هذه الشعارات).
المشكلة التي نعاني منها؛ هي سيطرة الفكر الحركي وأيديولوجيا التيار وأهدافه أكثر من أي شيء آخر، ولا يزال الكثير منا معتادا أن يفكر في كيفية انتصار أفكاره فقط، بينما لا يبحث في ماذا لو كانت أفكاره وتياره هي الخاسرة؟ ألا تريد أن تكون هناك خطوط من حقوق الإنسان التي تحفظ لك كرامتك وحقوقك الإنسانية؟
يجب أن يعي أولئك أن المبادئ الإنسانية العامة لا تتعارض إطلاقا مع اعتزازهم بأفكارهم وإيمانهم بها، خاصة أننا إذا تلمسنا كل تلك المبادئ وجدنا أن الإسلام قد سبق بتأسيسها في الوقت الذي كان العالم يعيش فيه وحشية الفكر والظلام في كل مكان!
عندما نناقش مسألة من المسائل المرتبطة بحقوق الآخرين أو العلاقة بهم، والتي قد تكون سببا في موت الآلاف أو تشويه الدين مثلا؛ فإن من السذاجة والضحالة أن نناقشها بمجرد خلاف فقهي فلسفي، وكأننا نناقش الجدل المترف حول مسألة تحريك الأصبع في الصلاة في التشهد!
نحن في أحوج ما نكون إلى تعزيز الثقافة الإنسانية في خطابنا، والتي بناها أولا الدين الإسلامي (بالنظر للسبق التاريخي لتأسيس تلك الأفكار). هذه المبادئ التي تعزل بين المتخاصمين فكريا وتبقيه في إطاره الفكري وتحفظ المجتمعات من ويلات القتل والحروب والدمار، وتعزيزها، هو الذي جمع قارة أوروبا في كيان موحد بعد تاريخ عميق ومليء بالحروب والتناحر والتنافس داخل القارة وخارجها.
هذه دعوة إلى العقلاء بأننا يجب أن نبادر بحفظ مجتمعاتنا وتوعيتها بأن نستفيد من الدروس التي وصل إليها غيرنا بعد تجارب طويلة وعنيفة.