عندما دخلت القاعة الواسعة التي أعدتها الملحقية لاستقبال أعضاء الأندية السعودية، ارتفعت كل الرؤوس نحوها بنظرات الاستنكار، يتبعها همهمة تفهمها هي جيدا.
كان الصف الأول خاليا تماما فقررت الجلوس في منتصفه، هكذا تستطيع أن تسمع وتناقش وتقبل وترفض. زادت الهمهمة وتكونت دائرة كبيرة من زملائها المبتعثين، راقبتها هي بهدوء وارتفعت الأصوات ربما لإسماعها "إيش جابها، لازم تخرج"، لكنها تجاهلت كل هذا حتى وقف أحدهم أمامها وقال بصوت: "آمري لو سمحتِ ليس هذا مكانك، إما أن تخرجي أو تجلسي في المقعد الأخير".
نظرت نحوه متعجبة وطالبت بمبرر واحد يجعلها تنفذ أمره، فأخذ يسرد كلاما إنشائيا، هي متأكدة أنه لا يتبعه مطلقا، فكطالب يدرس في بريطانيا لا يمكن أن يمتنع عن مشاركة أحدهم مشروعا أو حوارا لمجرد جنسه أو لونه أو دينه، قررت البقاء ليظهر بعض المعترضين، لذا قرروا التصويت الذي انتهى بالمطالبة بخروجها، لكنها رفضت وبقيت، واضطروا إلى بدء الاجتماع ولم يستطيعوا تجاهل صوتها.
حدث هذا الموقف في التسعينات وحدث موقف يشبهه الآن، إذ استعد الجميع لانتخابات أندية المدن البريطانية، وقرر الكثيرون في لندن انتخاب طالبة دكتوراه ومبتعثة تملك الخبرة وعضو فاعل في جميع الأنشطة، وأم وزوجة تحظى باحترام الكثيرين ممن يعول على آرائهم كرئيسة لنادي لندن، لكن مجموعة لا يذكر لهم أحد تفاعلا أو صيتا قررت زيارة الملحقية ورفض مجرد الترشح، لكن كما بدا للجميع رفضت الملحقية طلبهم، وبدأت الانتخابات لنفاجأ أن اسم من نثق فيها موجود بجميع الخانات. ترشيح لرئاسة النادي ولنيابته ولرئاسة المركز التعليمي، لنستوضح منها خاصة أن من حقنا اختيار اسم واحد، لكنه لم يكن لديها علم أو تفسير لما حدث، وتنتهي الانتخابات بانتخاب شخص آخر استقال بعد أسبوعين، وما زلنا في لندن بلا رئيس نادٍ، لأنها -واحتراما لذاتها- رفضت أن تقود النادي بعد استقالة المنتخبين.
ثمة موقف ثالث وقد يكون طريفا إلى حد ما، لكنه يكشف عقلية هؤلاء الذين يشكلون صوتا عاليا وقوة داخل مجتمعنا، بغض النظر عن مدى قدرته العقلية.
تقول طالبة مبتعثة إن زميلا لها سعوديا قال لها: نحن نجلس خارج المقهى الفلاني وكلما مرت سعودية محجبة دعونا لها، وإذا مرت أخرى غير محجبة دعونا عليها، قالت الطالبة: فلم أستطع إمساك نفسي من الضحك وقلت: هذا المقهى يقع بين مبنى المحاضرات وبين المكتبة، أي أن هؤلاء الفتيات إما أنهن خارجات من محاضرة أو ذاهبات إلى المكتبة، وأنتم تجلسون في يوم دراسي في مقهى! لقد أشعرتني أنك الملتزم وأن المسلمين يؤمنون على دعوتك، ثم هلا نظرت إلى نفسك وانشغلت بها؟! تقول: صمت وغادر.
أعرف أن هناك كثيرا من الشباب السعودي الذي يرفض هذه المواقف ويعدّ المرأة إنسانا مثله تماما، لكن هؤلاء الذين كانوا أبطال المواقف السابقة هم متسيدو الحدث وأصحاب الصوت العالي الذي يخيل للكثيرين أنه ناتج عن علم وثقافة، بينما هو مجرد جعجعة تخفي خلفها رجالا لا يختلفون عن إنسان الغاب الذي يرى في المرأة أنثى تُجر من شعرها!
في الحقيقة، لا تستطيع المرأة وحدها الوقوف ضد هؤلاء وتهميشهم، بل تحتاج إلى قوة القانون التي -ولا شك- يخشاها هؤلاء أكثر مما نتصور، وهو القادر الوحيد على إنقاذ السعوديات من هذا العنف.
من ناحية أخرى، القانون هو من سيخلصنا من هؤلاء الذين يصعدون اجتماعيا عبر مواقف سطحية، يظهرون فيها كمنقذين للمجتمع من الضلال، الذي تحمل المرأة في نظرهم مفتاح صندوق كل شروره.