القلق الدائم سمة فطرية أودعها الله سبحانه وتعالى في خلقه، ولكنها صفة دائمة ومتجلية في بني البشر!
والقلق الدائم هو سر الوجود وسر المعرفة، فحينما سقطت التفاحة في يد نيوتن، لم يأكلها حامدا شاكرا، ولم يدعها تذهب لحال عطنها إن كان لا يحب أكلها، وإنما بحث وفكر وتأمل إلى أن وجد سر الجاذبية الأرضية، وكلما زاد القلق وزاد العناء تزيد المعرفة، لأن بالمجهول يقترن الخوف لدى الإنسان، والحقيقة الكاشفة هي سر متعة الحياة أيما كان نوعها ووطأتها، إلا أن الحصول عليها من مباهج النفس، لأن ذلك يكشف ستار جزء من المجهول الباعث على القلق أو قل الخوف.
ما الذي دعاني إلى كتابة هذا المقال بصفة عامة وفي هذه الأيام بصفة خاصة؟
إنه ذلك الزحام الذي لم تشهد مصر له مثيلا في معرض القاهرة الدولي للكتاب، وتلك الصفوف المتراصة على بواباته بشكل لافت للنظر!
ما الذي دفع بكل هؤلاء البشر لهذا المعرض بشكل غير مسبوق، إذ كنت أحسبه ظاهرة احتفالية أكثر منها شرائية مثلما كانت في الأعوام السابقة؟ إلا إنني تأكدت أن هناك قوة شرائية كبيرة في هذا العام على غير سابقه!
فكما ورد في مجلة روز اليوسف: "شهد معرض الكتاب هذا العام إقبالا لم يقتصر على مجرد إقبال عدد من الزوار، ولكنه إقبال على اقتناء الكتب، كل مجالات القراءة متاحة ولا إقصاء لأي فكر، أغلبية زوار المعرض من الشباب يليهم الكبار الحريصون على اقتناء نوعية معينة من الكتب، شباب منهم يعرف الكاتب ويتواصل معه على صفحات التواصل الاجتماعي، وجاء لشراء إصداراته، وآخر يأتي ليسأل عن مكان دور النشر المشهورة التي اعتاد السماع عنها، وثالث يطلب من البائعين في دور النشر ترشيح كتاب له لشرائه".
ثم سألت صاحب دار نشر العالم العربي عن قوة البيع فأخبرني أنه إقبال غير مسبوق! كلها شواهد على هذا الانقلاب الفكري، وهذا الإقبال على الكتاب الذي أعلن الخاصة والعامة عن شهادة وفاته. فيأتي إلينا يتدحرج من قمة المعرفة، كرة من الثلج في كل كف حسب ثقافتها ونوعها وتوجهها الفكري والثقافي.
كل هذا حميد ومفرح وجيد ومبهج، إلا أنه يشير إلى أن هناك خللا وقلقا، مجهولا وحقيقة يحب البحث عنها! فيتراجع الإعلام، وتتراجع شبكات التواصل التي أرهقت البشر، فهل فقدت مصداقيتها في الذهنية العربية؟!
ولعل لوسائل الإعلام وللبلبلة التي تحدثها والآراء المختلفة وغير المتفقة، وللاتجاهات الفكرية المتصارعة إلى حد الذروة، دور كبير في الهروب إلى صفحات الكتاب، الصديق الأوحد الصادق الذي لا تعرفه إلا وقت الشدة. إما بحثا عن الحقيقة وإما هربا من ضجيج الإعلام المؤسف الذي يبحث عن "شخشخة" الجيوب.
فَقدَ أهلونا وأبناؤنا مصداقية الإعلام، وليس كذلك بل تشتت وتناثرت أفكاره في المفازة، فأصبح يترنح حتى فضل التنحي عن منصة التفكير.
فحينما سألت عددا ليس بالقليل عن أفكارهم وعما في جعبتهم من معرفة، فلم أجد إلا كلمة واحدة هي: أين هي المعرفة؟. وتذكرت قول سمو الأمير خالد الفيصل في قصيدته الذاهبة حين قال:
يا المعرفة يا ما سعيت.. أدورك وانتي شرود
أمشي واصوّت بالحياة.. يا من لقيت الذاهبة
دخلت أدور كل بيت.. وظهرت أدوج بالنفود
واسأل مراكيب الزمان.. الشارقة والغاربة
حقيقةً أمر محير، فما المعرفة الذاهبة عن عقول وأذهان رواد المعرض التي تكسب اللحظة الآنية سمتها من نوعية الكتب الرائجة وقوة الشراء لها؟. والحقيقة أنني حين سألت صاحب دار العالم العربي للنشر ـ وهي عظميات الدور الناشرة ـ وغيرها كثر وجدت أن أكثر المبيعات رواجا ثلاثة أنواع: "الرواية، الكتب السياسية، الكتب الدينية"! وبذلك وضعنا أيدينا على سمة القلق الدائم وعلى سمة العصر واللحظة، وعلى الذاهبة كما قال خالد الفيصل وهي: الأول نوع يهرب من عالم الواقع المخيف بالإرهاب والقتل والصراعات إلى عالم الخيال المتمثل في الرواية.
النوع الثاني وهو: الحصول على الذاهبة من السياسة أو الدين، فجاء الإقبال على هذه الأنواع الثلاثة، فأصبح الفرد ـ أو قل العامة ـ كما قال الفيصل يمشون ويصوتون في الحياة: "يا من لقيت الذاهبة"!
من المسؤول عن هذه الخلخلة في التلقي والفكر سواء كان سياسيا أو دينيا، أو حتى هروبا من عالم الواقع إلى عوالم افتراضية كما في الرواية؟
أمور تبعث على القلق أكثر مما تبعث على الاطمئنان، لأنها شكلت ظاهرة غير مسبوقة وفجأة وعلى غير استئذان!
بكل تأكيد هما اثنان لا ثالث لهما: التعليم والإعلام، ولا نقصي باقي المؤسسات من التعامل معهما.
هما، وبلا شك، من شكّلا هذه المصيدة التي شكلت ذهاب الذاهبة.
الإعلام هو المصيدة والشرك الأكبر في اللحظة الراهنة، لأنه من يفتح نوافذ الذهن لوضع الملح على الجرح بعيدا عن "شخشخة الجيوب" والبحث في عداد المشاهدة لاستدرار شباك الإعلانات، ولتذهب الذاهبة إلى الفلاة بلا رجعة، فيهرع الجمع طوابير على نوافذ شباك تذاكر معرض الكتاب لعل من يروي عطشهم بحقيقة ذهبت إلى أدراج المصالح وتعدد الرؤى وتدعيم فكر على فكر ورأي على رأي، وفصيل على فصيل. "ويا قلبي لا تحزن".
ولا نقول إلا: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرنا في مصيبتنا وأبدلنا خيرا منها.