بدا ذلك المنظر مؤثرا جدا ومهيبا للشهيد البطل الملازم أول طيار معاذ الكساسبة ـ الذي كان في أسر "داعش" بعد إسقاط طائرته ـ وهو ينظر إلى النيران قادمة لتحرق جسده وتنال من حياته بهدوء وإيمان وثقة، وشجاعة نادرة.

كنت كأنني أرى منظر الزعيم العراقي الراحل صدام حسين برباطة جأشه، حين كان يلتف حبل المشنقة حول رقبته، ثم يهوي جثة صامدة وليست صامتة في مشهد الطيار الأردني. حزنت كثيرا لمصير هذا الشاب بهذه الطريقة الوحشية القاسية التي ربما يترفع عنها البربر والنازية، ففي النهاية تستطيع إرسال رسائل بطرق أقل وحشية، لكن هؤلاء الناس نزعت الإنسانية من قلوبهم، فثقافتهم ثقافة قُطّاع الطرق والعصابات المنظمة التي يعبد قياداتها الدرهم والدينار والسلطة.

كنت في حوار مع أحد المواقع في بحور النت فعتب أحد المتداخلين كوني متأثرا، وقال هل هذا الطيار الذي أحرقته "داعش" وجنودها كان قادما بطائرته الحربية لينثر الورد وحمائم السلام أم ليحرق الدواعش بنيران الصواريخ التي تفوق الحرق بالنار أثرا وتدميرا للبشر؟ لم يكن تأثير المشهد ليحجب الصورة الأكبر ومفادها أن الطيار كان سيحرق الأهداف المحددة مسبقا، لكن المقارنة ظالمة لأنه يحارب في منظومة دولية تدافع عن قيم العدل والإنسانية ضد الإرهاب.

الجزء الذي يلفت الانتباه أيضا في تلك القضية التي تشغل الرأي العام ومحل حديث العالم حاليا، هو الكذب الذي كانت تمارسه قيادة "داعش" بالتفاوض مع حكومة الأردن على مبادلة الطيار الكساسبة بعدة إرهابيين على رأسهم ساجدة الريشاوي المتهمة بتفجير فنادق في الأردن، في الوقت ذاته كان الطيار قد تم إحراقه وانتهى أمره.

تلك العصابة فاقدة لمعاني الإنسانية والمصداقية أيضا، فحتى الأعداء هناك اتفاقات ومواثيق وتفاهمات بينهم، وقد نظمها هذا الدين الذي يدعي أولئك المجرمون تمثيله والحديث باسمه زورا وبهتانا.

بثبات النخيل بدا معاذ الكساسبة شامخا وهو يدير نظره في من حوله وخيط النار الذي رسمه الداعشيون بطريقة هوليودية يقترب مسرعا منه، ومن البداهة أن نقول: إن التصرف الشجاع الذي أبداه الرجل طبيعي جدا رغم صعوبة الموقف لطيار حربي يواجه الموت، واعتاد رؤيته في أحايين كثيرة بل في كل طلعة جوية.

الباحث السياسي يعلم جيدا أن تلك الشرذمة الداعشية لم تكن لتنمو وتستمر فضلا عن أن يكون لها وجود حقيقي مؤثر لو كانت هناك رغبة حقيقية وجادة للقضاء عليها من قبل الولايات المتحدة والقوى الفاعلة، لكن أميركا تكتفي بالطلعات الجوية التي لن تحسم حربا، ويصرح المسؤولون الأميركيون وآخرهم رئيس قطاع القوات الأميركية الوسطى في CNN أنهم ـ أي أميركا ـ يسعون إلى إضعاف "داعش"، ولم يتحدث أبدا عن القضاء على هذا التنظيم، فذلك يحتاج شريكا جديا على الأرض.

الشريك موجود، وتركيا جاهزة لكن أميركا لا تريد إسقاط نظام البعث السوري بل وتدعم بشار من خلف الكواليس، ولا تريد لتركيا أن تفعل ذلك، ومن هنا يتبين لنا أن الإرهاب الحقيقي هو أميركي بامتياز، وأن الحكومات الأميركية المتعاقبة كانت وما زالت تدعم تلك الحركات الإرهابية وترعاها من أجل حرب أية جغرافيا كونية متى ما شاؤوا تحت شعار مكافحة الإرهاب.

أعتقد أن المسؤول الحقيقي عن إحراق معاذ وتلك الحروب العبثية وإطالة أمد معاناة الشعوب العربية والشرق أوسطية هو الطغيان الأميركي، ودعم الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وتلك أيضا ذريعة كل من ركب موجة الإرهاب من ثوريي الجهاد، بدءا من "عبدالله عزام" مرورا بـ"ابن لادن" والكل يردد أنه يقاتل من أجل فلسطين وتحرير الأراضي العربية المحتلة.

رحم الله معاذا، وألهم أهله الصبر والسلوان، خصوصا والديه، ومن الوطن أتقدم نيابة عن كل الشعب السعودي النبيل بالتعازي لعائلة معاذ وأصدقائه وأهله والأردن حكومة وشعبا وعلى رأسهم جلالة الملك الهاشمي عبدالله الثاني.

يحتج منظرو الدواعش في فعلتهم تلك ببعض مما جاء في الأثر من تاريخ السلف، من أن أبا بكر حرق فجاءة بالبقيع، وأن خالد بن الوليد قد وضع مالك بن نويرة بين حجرين وسط الحطب وطبخ القدر عليه، وأن عبدالله بن جعفر أحرق عبدالرحمن بن ملجم.

لا أعلم صحة تلك الروايات، لكن حتى وإن صحت فلا يعتد بها في هذا الزمن، بل يعدّ تشويها للإسلام، وينبغي أن نُظهر ـ كمسلمين ـ الإسلام الحقيقي بجوانبه المضيئة.