أعلن الجيش البريطاني قبل أيام عن تشكيل وحدة قتالية جديدة بمسمى الكتيبة 77 والمؤلفة من 1500 عنصر. خبر الإعلان عن تشكيل كتيبة عسكرية كهذه قد يبدو عاديا لأول وهلة، ولكن المختلف فيه أنها كتيبة إلكترونية تعنى "بقتال" افتراضي في ساحة مهمة وحيوية، ساحة وسائل التواصل الاجتماعي كتويتر والفيس بوك، وميادين الأجهزة الذكية، بغرض شن حروب "نفسية" ومتابعة الأخبار والأنشطة المتبادلة خاصة ما تهم الجيش البريطاني وتتعلق بعملياته حول العالم.

الحروب النفسية قديمة بقدم التاريخ ولها أمثلة عديدة، وقدمها العلم الحديث في المجال العسكري والسياسي في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وقد تتخذ هذه الحروب عدة أشكال ومسميات ووسائل لتطبيقها على العدو أو على الشعوب حتى يسهل انقيادها وخضوعها. من هذه الأشكال: الحرب الباردة، وإطلاق الشائعات، والاغتيالات، وتشجيع التمرد وإثارة الفتن وخلق المعارضين السياسيين، والضغط الاقتصادي، واستغلال الأقليات العرقية أو المذهبية، والحرب الفكرية والأيديولوجية. وبوجود وسائل التقنية الحديثة التي يستخدمها الكبير والصغير، الجاهل والمتعلم، الواعي والخاضع لقيود تفكير أو جهة ما، نلحظ أن مثل هذه العمليات يسهل استخدامها ونشرها في فترة قياسية مقارنة مع الماضي، وتخدم الغرض من الحروب النفسية لأي جهة معادية بسهولة. من هنا اهتمت دولة عظمى كبريطانيا بإنشاء مثل هذه الكتيبة والإعلان عنها في هذا الوقت تحديدا الذي يشهد صراع قوى سياسية واقتصادية عنيفة، ويعتبر الإعلان بحد ذاته إحدى الطرائق للحرب النفسية هذه، فساحة التقنية تعد الميدان الجديد للاقتتال والصراعات والسيطرة على الآخرين متى ما استخدمت بذكاء وحذر.

شهدت المملكة الأسبوعين الماضيين تحولا تاريخيا، بدأ بوفاة الملك عبدالله بن عبدالعزيز، رحمه الله، ثم انتقالا سلسا للحكم إلى الملك سلمان بن عبدالعزيز، حفظه الله، مع إعلان سريع عن ولي للعهد وولي له من الجيل الثالث من الأسرة الحاكمة. تلى ذلك بعد عدة أيام حزمة قرارات وأوامر ملكية تهدف لمصلحة الشعب في المقام الأول وذلك بصرف قيمة راتبين لموظفي الحكومة والمتقاعدين والطلاب ومستحقي الضمان، مع دعم سخي لخدمات الكهرباء والمياه والأندية الأدبية والرياضية والجمعيات الخيرية، وعفو مشروط عن بعض سجناء الحق العام. وكذلك تحسين وتغيير كبير في بعض المؤسسات الحكومية كإلغاء الكثير من الهيئات والمجالس العليا وتشكيل مجلسين يعنيان بالأمن والسياسة، والاقتصاد والتنمية. بالإضافة لتغييرات في إمارات المناطق وبعض المؤسسات الكبرى. وكانت كل هذه التغييرات تحمل روح الشباب والكفاءة في التعيينات الجديدة ولمسة من التحدي والإصرار على تحسين العمل الحكومي والإداري ومحاولة النهوض بالدولة لمصاف الدول المتقدمة القائمة على العمل المؤسساتي والمدني المتقن والفاعل. وكمتابعين لهذه التحولات من قبل حدوثها وأثناءها وبعدها، نلحظ أن ساحة الحروب الجديدة، ساحة التقنية ووسائل التواصل الاجتماعية الحديثة والأجهزة الذكية، التي ذكرت في أول المقال؛ لم تخل من بعض وسائل الحروب النفسية التي استخدمها بعض المغرضين بقصد وتعمد، وأسهم في نشرها وتوسعها بعض الجاهلين والغافلين.

منذ اللحظة الأولى لفزعنا بخبر وفاة ملكنا الحبيب الراحل، بدأ ينتشر في هذه الوسائل بعض طرق "الحرب النفسية"، بسوء تقدير أو سوء نية، من تدوير للشائعات والتكهنات. ولكن الانتقال السريع والكامل لم يبق لمزيد من التخرصات مكانا. ثم بدأت بعد ذلك إشاعات أخرى ومطالب بعضها يخلو من البراءة والحرص على مصالح ووحدة الوطن واستقراره، فجاءت القرارات والأوامر الملكية حازمة وشاملة ومفاجئة في كثير من جوانبها، فأسعدت كل بيت في الوطن ورسمت أملا بتحسن وتطور الكثير من الجوانب المهمة في حياة المواطن ومؤسسات الوطن، وألجمت أصحاب الفتن والمُغرضين إلى حدٍ ما. لكن هذه الساحة قلّما تهدأ من الإثارة والزوبعة والشائعات ومحاولة استغلال تلقف البسطاء لكثير من الأمور التي ظاهرها المديح والصلاح وباطنها ما أخفت أنفسهم من جهل وفتن وكيد.

الملاحظ على هذه القرارات والأوامر الملكية التي تشكل وجه السعودية الحديث أنها تركز على عنصريّ: الأمن والتنمية. فإنشاء مجلسين مرتبطان تنظيميا بشكل مباشر بمجلس الوزراء لا يُلغي فقط البيروقراطية التي تعرقل الكثير من القرارات والإنجازات، بل يوضح للمواطن وللعالم المتابع أن هذين الشأنين هما القوة التي تحاول الحكومة التركيز عليهما وتعزيزهما والتأكيد على أن أحدهما لن يقوم إلا بالآخر. ولهذا يعتبر الالتفات لتعزيز الأمن في ساحات التقنية أولوية يجب التأكيد عليها، والحرص على إيقاف المغرضين والمتجاوزين والذين يحاولون زعزعة الأمن أو نشر الشائعات أو الأخبار التي تسهم في إثارة الفرقة والشقاق، سواء كانت محاولات للتحريض الطائفي أو التحريض على القيادات الجديدة أو كما رأينا مؤخرا من التشفّي والشماتة بإقالة بعض المسؤولين السابقين والتي انتشرت بشأنها صور للاحتفالات أو دعوات لولائم أو تسجيل مرئي لنحر بهائم بغرض الشكر والاحتفاء بإقالة هذا المسؤول أو ذاك. مثل هذه التصرفات التي تدخلت الجهات الأمنية لمحاسبة البعض من أصحابها، وتم تداولها على نطاق واسع، لا تخلو من الخبث لتمرير ضغط خفي لأجندة معيّنة على المسؤول القادم، مثلها تندرج تحت استغلال وسائل التقنية الحديثة للحروب النفسية واستخدام العامة لتوسيع نطاق الفكرة وتحقيق الغرض. وما زلنا نلحظ أن الكثير من الشائعات ما زالت تصل على هيئة بشائر أو توقعات ظاهرها البراءة وباطنها محاولة خلق نوع من التفكير الجمعي الذي يصب في صالح تيار واحد، ويتعارض مع الأمن الفكري الذي ينبغي الحرص عليه في هذا الوقت الحرج للوطن.

المسؤولية لا تقف فقط عند رجال الأمن والقيادات الأمنية العليا ولا ترتكز عليهم وحدهم، بل إن المواطن شريك في هذا العمل وهذه المسؤولية العظيمة، التي يقوم عليها الاستقرار الذي سيدعم التنمية والمصالح الوطنية والاجتماعية الأٌخرى. فالتوقف عن نشر وتداول مثل هذه الأخبار والمشاركة في تكذيبها وتفنيدها وكشف الأهداف المغرضة خلفها هو واجب كل فرد ينعم بالأمن والحياة على تراب هذا الوطن. نحن لا نحتاج كتيبة عسكرية تقنية، كالكتيبة 77 التي أعلنت عنها بريطانيا، بقدر حاجتنا أن يكون المواطن واعيا بما يحاك حوله وضده وضد وطنه، وأن يكون أمن هذا الوطن واستقراره أولوية نسعى إليها جميعا ونحرص عليها كحرصنا على أن ننال حقوق المواطنة كاملة.