يستمد الموت هيبته ورهبته الكبيرة من الأحياء، الموتى بمجرد انطفاء الروح في أجسادهم لا يقدرون على فعل شيء، لا يمكنهم حكّ أنوفهم، ولا مسح اللعاب لو سال من أفواههم، وفيما لو هاجمهم أحد فإنهم لا يعرفون عن ذلك شيئا، ولو بكت عليهم الوجوه، حتى تلك التي لا تُرى، السحنات البسيطة المختبئة في الطرقات والعشش، فإن الموتى أيضا لا يفهمون هذا، ولا شيء لديهم ليواجهوا به كل هذا سوى سكينتهم التامة والصمت الأبدي.
الأحياء هم من يرتاعون، هم من ينال الموت منهم حقا، وهكذا ومنذ آلاف السنين راح البشر يقولون القصص ويتلون الأناشيد الخاشعة والصلوات.
أحد الذين شغلهم الموت وما يتلجلج فيه من الحكايا، وكتبوا عنه بجمال فائق، الروائي الكولمبي ماركيز، الذي التقمه الموت أيضا في السنة الماضية. في قصته الساحرة "أجمل غريق في العالم".
كتب، "جلست النسوة حول الغريق في شكل دائرة بين أصابع كل واحدة منهن إبرة وأخذن في خياطة الملابس، كن ينظرن بإعجاب إلى الجثة بين الحين والحين. بدا لهن أنه لم يسبق للريح أن عصفت في مثل هذه الشدة من قبل ولا لبحر الكارايب أن كان مضطربا مثل ذلك المساء.
قالت إحداهن إن لذلك علاقة بالميّت، وقالت أخرى: لو عاش هذا الرجل في قريتنا لا شك أنه بنى أكبر البيوت وأكثرهن متانة، لا شك أنه بنى بيتا بأبواب واسعة وسقف عال وأرضية صلبة ولا شك أنه صنع لنفسه سريرا من الحديد
والفولاذ، لو كان صيادا فلا شك أنه يكفيه أن ينادي الأسماك بأسمائها لتأتي إليه.
لا شك أنه عمل بقوة لحفر بئر، ولأخرج من الصخور ماء ولنجح في إنبات الزهر على الأجراف. دخلت النسوة في متاهات الخيال".
وفي الموت.. توفي الملك عبدالله، الساعة الواحدة صباحا، في الثالث من ربيع الثاني لهذا العام، غطّ للمرة الأخيرة في نومه الأبدي، ترك وراءه الكثير الكثير ليقال، كان عجيبا كيف هاجت رياح المحبة الكبيرة تلك. أحد مقاطع الفيديو التي انتشرت في الأيام الماضية كان لامرأة طاعنة في السن، وبملابسها الشتوية البسيطة كانت تتكلم بحرقة عن ذهاب الرجل وتُدافِع بكاءها.
الناس، حتى الأميين منهم، يعرفون من يقف إلى جانبهم، من ينحاز إليهم. سيمضي الوقت وينتهي العزاء، وسيبقى أكبر تقدير للملك عبدالله هو العمل على مواصلة مشروع الإصلاح الذي كان يقوده، في التنمية والتعليم والقضاء والحقوق والحريات ومجابهة الغلو والتطرف. كان رجلا جميلا وبسيطا، والناس أحبوه.