قد يحلل الإنسان ويتنبأ بوجود مؤامرة ما، ويكون رأيه وتحليله قابلا للخطأ والصواب، ولكن التحليل بوجود مخطط ما أو مؤامرة تستهدف كياناً أو دولة أو فكرة ينتقل من كونه تحليلاً أو تنبؤا إلى حقيقة حين يتحقق على أرض الواقع، فينتقل الأمر من كونه تحليلاً أو رؤية فكرية استقرائية نسبية إلى كونه حقيقة ماثلة للعيان لا يناقش فيها إلا مكابر في قبول الحقائق أو منتفع من الحدث أو مغيب عن الوعي.
والأمتان العربية والإسلامية في وضعهما الراهن تواجهان حربا كبيرة ومخططا رهيبا لا يجادل فيه إلا مكابر، بدأت إرهاصاته بعد سقوط المنظومة الشمولية السوفيتية، وتجلت معالم الأمر في ذلك الصباح الذي شنت فيه الطائرات الأميركية الحرب لإسقاط صدام حسين في العملية التي سميت بـ(العراق أولاً)، وما تبع ذلك من مشكلات كبيرة، وتنامي حركات التطرف والإرهاب التكفيرية، تمهيداً لخلق حالة من "الفوضى" العارمة في المنطقة بأسرها، وقد بلغت ذروتها بعد أن بدأت "الثورات العربية" وبدأت تتساقط الدول تباعاً على مرأى ومسمع من العالم كله، ولا تزال تئن تحت وطأة الحرب كما في ليبيا واليمن والعراق وسورية ولبنان، والاضطرابات في البحرين، وكادت مصر أن تلحق بأختها سورية لولا أن ظروفها وطبيعة مجتمعها وتشكلاتها الفكرية والسياسية تختلف عن ظروف وطبيعة الدول الأخرى.
كان كثير من الراصدين والمهتمين يدركون مخططاً أعد في السبعينيات لإنهاك العرب وتحطيم جيوشهم تمهيداً لتوسع وتمدد دولة البغي الإسرائيلية، ورسمت خريطته بما يحقق مصالح الغرب وإعادة العرب والمسلمين إلى ما قبل عصر النفط، وخاصة حين رشحهم مفكروهم خليفة للعدو البلشفي الأحمر، وكانت الرؤى والاستراتيجيات والخطط تعد من خلال حرب مختلفة، حرب تقوم على "التدمير الذاتي" لهذه الدول دون التدخل المباشر فيها إلا بحدود لا تسمح بهذا، فالعراق لم يغز غزواً مباشراً إلا بعد أن فشلت كل الثورات الاجتماعية المعدة من قبل أعدائه، ولكنها للأسف نجحت في غيرها من البلاد التي فقدت أمنها وجيوشها واستقرارها ونفسيتها وأصبحت في فتنة يرجون فيها أن يعودوا إلى ما كانوا عليه على الأقل.
المشكلة في الأحداث ليست في العدو المباشر، وليست في المواجهة المسلحة، وليست في القدرة على التعامل مع المعتدين، وإنما تكمن في "غياب الوعي" و"المكابرة" اللذين يشكلان الوعي العام، الوعي المغيب عما يخطط له المتآمرون، وهذا بالنسبة للأعداء أعظم من امتلاك السلاح، وأعظم من قتل المحاربين، لأن غياب الوعي يعني المزيد من المغفلين الذين يركبون هذه المخططات والاستراتيجيات التي تصب في النهاية في مصلحة الأعداء وخاصة الدولة اليهودية في فلسطين.
"مصر" هي "الجائرة الكبرى" التي تطمع فيها الصهيونية العالمية، وهذا ما صرح به ريتشارد بيرل السياسي اليهودي الأميركي الذي يوصف في وسائل الإعلام الأميركي بأنه "أمير الظلام"، وهو الذي يصعد ويذكي خطاب العداء للعرب وهو الذي كان يدعو لاحتلال العراق، حين قال: "العراق هدف تكتيكي، والسعودية الهدف الاستراتيجي، ومصر هي الجائزة الكبرى".
مثل هذه التصريحات ليست رأياً لمفكر سياسي، وليست أمنية خاصة، وإنما هي رأي لمجموعة من الاستراتيجيين الذين تطبق أفكارهم وتنفذ واقعاً، وكل الأحداث التي تجري الآن دليل قطعي على أنها لم تكن أفكاراً متطرفة عابرة، وإنما هي خطط في طور التنفيذ.
نعم، مصر ستكون الجائرة الكبرى لإسرائيل إذا أُنهك جيشها، ودُمرت قوتها، فالعراق وسورية وليبيا دُمرت، وها هو الدور يأتي على مصر، ولكنه ليس تدميراً تقوم به إسرائيل، ولا الغرب، وليست فيها حرب مباشرة، ولكنه دور ينهك ويدمر جيشها من خلال مجموعة من أبنائه الذين يقاتلونه في سيناء، ويستهدفون جنوده ومعداته ومراكزه، فهم لم يطلقوا على إسرائيل طلقة واحدة، ولم يهددوها في وجودها، وإنما توجهت قوتهم إلى الجيش المصري الذي قاتل إسرائيل في ثلاثة حروب، وفقد مئة ألف مقاتل، وها هو اليوم يُنهَك ليس بأيدي اليهود وإنما بأيدٍ آثمة تريد زعزعة أمن واستقرار مصر الذي سوف ينعكس سلباً على أمن المنطقة كلها ويكشف ظهورنا لإيران وإسرائيل ويجعلنا لقمة سائغة للقوى المتربصة.
الجيش المصري والحكومة المصرية مهما بلغ حجم الملحوظات عليهما، ومهما كانت وجهات النظر حول ما جرى بعد 30 / 6، فإن ذلك لا يبرر إدخالهما في معركة تدميرية، وكل مصلحة متوهمة مرجوة من هذه الأعمال لا تساوي المفاسد الكبرى التي سوف تنال كل المسلمين، ولكن أهل المطامع والمعدين للأدوار الخطيرة لا يهمهم إلا مصالحهم وأفكارهم الذاتية، فمصلحة الأمة مؤجلة في وعي هؤلاء، ولا ينظرون للأمور إلا من ثقب حزبي فئوي ضيق، ولا يعون المصالح الاستراتيجية للأمة إلا من خلال ما يعود على أحزابهم وتوجهاتهم وتنظيماتهم من مصالح قليلة وخاصة، وهذه هي أزمة الجماعات المسيسة التي بدلاً من أن تكون عامل إصلاح في الأمة أصبحت عامل فساد واختراق وخدمة للأعداء.
ولنا أن نتخيل أن مصر حل بها ما حل بسورية.. ما هي الأضرار التي سوف تترتب على ذلك؟ كم من المشكلات التي سوف تحدث داخلها؟ كم من الدماء التي سوف تزهق جراء مواجهة جيش بقوة الجيش المصري؟ ألا يدرك هؤلاء أن الجيش المصري هو الذي يعد العضد القوي لأمن الحرمين في زمن المشروع الصهيوني والصفوي؟ ألا يدرك هؤلاء أن الجزيرة العربية ومحضن الإسلام وقبلة المسلمين مطوقة من جهاتها جميعاً من قبل إيران التي تتنقل من دولة إلى دولة بعد أن استحوذت على العراق بوابة الشرق الإسلامي؟ ألا يدرك هؤلاء أن هذا هو التنفيذ الفعلي لمشروع "الفوضى الخلاقة" الذي يقوم على تدمير الناس بأيديهم ومن ثم رسم المنطقة من جديد لتحقيق سيادة اليهود على المنطقة برمتها؟ إن هذه بعض المفاسد التي ستحل لو استمر هؤلاء بغيهم في مواجهة أهلهم وأوطانهم.
على العقلاء أن يتداعوا للتدخل في حل المعضلة المصرية، وإننا متفائلون بعصر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- ليكون له الدور الريادي الكبير في الإسهام بإخراج مصر مما هي فيه قبل أن تحل الكارثة، فهو الرجل الحكيم والمجرب والخبير بالسياسة والمصالح، وعلى كل المتصارعين في المشهد المصري أن تكون مصالح مصر العليا ومصالح الأمة الكبرى هي المقياس والمحرك لإدارة الخلاف، سائلاً الله أن يحفظ مصر وأهل مصر من كل سوء ومكروه.