تحدثنا في مقال سابق عن الأنا التي تمثل (الذات الوهمية) والتي تبدأ بالتكون في مرحلة مبكرة من أعمارنا، وسألنا إن كانت صورة الذات هذه هي بحق من نكون؟ أم أن هناك ذاتاً أخرى حقيقية تكمن هناك في الأعماق، ترقب وتعي وتدرك أن الذات الحقيقية التي تحمل النفخة الربانية أكبر وأعظم وأقدس من أن تجسد في صورة ذهنية وقوالب طينية.

الذات التي ذكرها الرحمن في قوله: "وَنَفَخْت فِيهِ مِنْ رُوحِي".. وتتبعنا الصراع بين ذاتين، بين صورة ذهنية ولكنها في أعين صاحبها والناس مرئية، وذات أخرى حقيقية ولكنها مغمورة في الأعماق منسية، ويستمر الصراع.

من أنا؟ سؤال حاولنا أن نجيب عنه.. قد لا تكون من تظن أنك أنت، أنت لست ممتلكاتك ولا ملكاتك، أنت لست تعليمك ولا شهاداتك، أنت لست مهنتك ولا حرفتك، أنت لست تاريخك الأسري وعلاقاتك ومكانتك الاجتماعية، أنت لست شكلك الخارجي ولا حتى آراءك. قد تجد هذا الكلام غريبا قد تجده مخيفا أو مريحا، ولكن إذا كنت لا تصدق ذلك الآن فإنك حتماً ستصدقه قريبا شئت أم أبيت.. ستصدقه وتدركه وتعيه وتتيقن منه على فراش الموت.. لأن الموت سيجردك ويعريك من كل شيء هو ليس أنت، يجردك من كل الأشياء التي لا تعدو إلا أن تكون صورا وأشكالا من صنع الذات الوهمية، من الأنا.

وإذا أتينا للحديث عن الأنا والزمن فسنجد أنه لا شيء يحدث في الماضي، وإنما يحدث دائما في لحظة تسمى اللحظة الراهنة أو الآن، وما الماضي إلا ذكرى للحظة من لحظات الآن التي مرت وقضت وانتهت، وبذلك فالماضي ليس له في الحقيقة وجود إلا في ذكرى له تنشأ في مخيلتنا وعقولنا وتحدث في لحظة الآن.

وكذلك لا شيء يحدث في المستقبل، فالمستقبل هو صورة ذهنية تخيلية لما يمكن أن يحدث في لحظة من لحظات الآن المستقبلية التي عندما تأتي ستكون دائما بصورة واحدة فقط تسمى (الآن)، وبذلك فإن الماضي والمستقبل ما هما إلا انعكاس لحقيقة واحدة ألا وهي حقيقة اللحظة الراهنة، حقيقة لحظة الآن، لا شيء يوجد خارج الآن. الماضي والمستقبل يمكن تشبيههما بالقمر الذي ليس له ضوء بذاته وإنما هو انعكاس لضوء الشمس. الآن هي ضوء حقيقة حياتك الوحيدة.

والماضي نوعان، ماض نستخلص منه تجارب وخبرات تعيننا على حسن استثمار لحظة الآن، وماض من نوع آخر يحمل في طياته الآلام والأحزان، وهذا هو الماضي الذي يرهق كاهل الإنسان عندما يعيش هذا الماضي في داخله حيّاً على شكل ذكريات فيصبح له كيان، ليحبسه في سجنه ويصبح عقل الإنسان الذي يحيي هذه الذكريات هو السجّان.

والمستقبل كذلك نوعان، مستقبل نخطط له بعقولنا ونستثمر وضوح رؤيتنا في التركيز على لحظة الآن والتي بها لا بغيرها يمكن أن يتحول وهم خيال المستقبل إلى حقيقة، والتي ستأتي بصورة الآن عندما نصل إليها في يوم من الأيام.

هناك مستقبل من نوع آخر يحمل في طياته الخوف والرهبة والترقب والهم مما هو آت، وما هو في حقيقته إلا تخيل ووهم من صنع عقل الإنسان، وهذا هو المستقبل الذي يستنزف الطاقات ويفقد التركيز على الحقيقة الوحيدة في يد الإنسان وهي لحظة الآن.

لا يستطيع الإنسان أن يجد نفسه بالعودة إلى الماضي، ولا يستطيع أن يجد نفسه في تخيل المستقبل، لا يستطيع الإنسان أن يجد نفسه إلا بحضوره وتواصله مع لحظة الآن، هذا الحضور هو الوعي الذي يعي ويدرك ويرى ويرقب الأفكار والمشاعر التي يمر بها الإنسان، فلا يسمح للصوت الذي في رأسه والأفكار الشاردة أن تسرق منه لحظة الآن.

معظم الناس يعيشون في الماضي أو المستقبل، يعيشون في الماضي بأحزانه أو أفراحه أو همّ وتخيل ما يمكن أن يحدث في المستقبل من محزن أو مبهج، وهم بذلك ينكرون دون أن يشعروا نعمة لحظة الآن ويحرمون أنفسهم من الحقيقة الوحيدة في حياتهم التي بها لا بغيرها يمكن أن يتغير الإنسان.

ولكن لماذا يفعل الناس ذلك؟ إنها الأنا هي التي تفعل ذلك، إنها الأنا التي تستخدم الأفكار المتكررة المستمرة لتعيش بها في الماضي والمستقبل وتهمل لحظة الآن.. إنه اللاوعي الذي تعيشه معظم البشرية. الأنا تريد أن تهرب من لحظة الآن إلى ماض أو مستقبل، لأن وعيك بلحظة الآن يعني الحضور ويعني السكون ويعني الكينونة، يعني أن تترك مساحة كافية للوعي فيك أن يستيقظ، وأن تسمح لذاتك الحقيقية أن تعي وأن تراقب أفكارك ومشاعرك. هذا الوعي معناه أنك قد بدأت في سبر أغوار أعماق نفسك وأن تقترب من المصدر، من الروح التي فيك وهي من نفخة الرحمن.. ومن هنا يستقى الإلهام منبع كل إبداع، فالإبداع يأتي من عالم الإلهام، عالم آخر ليس من هذا العالم، وهذا ما يؤكده جل العلماء والباحثين والمخترعين، فكل الاختراعات والابتكارات كان منبعها إلهاما في ساعة صفاء ذهن وحضور نفس وسكون، لا ساعة صخب أو تفكير في مستقبل أو ماض.

وفي هذا تهديد وخطر على الأنا التي فيك، الأنا لا تستطيع أن تعيش فيك دون شرود الأفكار للماضي أو المستقبل، قد تظهر الأنا في صورة قصتي الحزينة التي أحملها معي أينما ذهبت من أحزان الماضي وإخفاقات الماضي وحسرات الماضي، وهي تحمل معها طاقة سلبية تلوث نظرتي للحظة الآن، فأراها بعين أحزان الماضي، فألبس اللحظة من الأحزان ما ليس فيها، وبذلك يتزايد حمل تراكمات العبء النفسي للماضي الحزين، وقد تظهر الأنا في صورة وهمية وخيال من صنع عقلي لحدث معين سيحدث لي في المستقبل وعندها ستبدأ حياتي الحقيقية، عندها فقط سأحصل على السعادة والهناء وأحس بالراحة والأمان.. وكلها صور من الأنا تحرمك نعمة لحظة الآن، فعندما تغيب الذات الحقيقية فإن حالة اللاوعي تجعل الأنا تسيطر علينا والأفكار تسرح بنا بين الماضي والمستقبل.

الأنا تريدك أن تدمن على الأفكار المستمرة المتكررة التي تعيش في الماضي أو المستقبل لتصبح هويتك هي ما حدث لك في الماضي أو ما تنتظره في المستقبل، وكلاهما بعيد كل البعد عن هويتك وذاتك الحقيقية.

هوية الأنا تعيش في تأنيب وحسرة وألم ومعاناة الماضي أو خوف وترقب وقلق على المستقبل، وعلى قدر ما تعطي الماضي من أهمية، على قدر ما تمده من طاقة ليصبح الماضي هو أنت وتعرف نفسك من خلاله وتصبح أسيره.

كم من الناس يعيشون وهم يحملون على ظهورهم العبء النفسي الثقيل لأحزان الماضي، وكم من الأمراض والأسقام جلبت هذه الأحمال النفسية الثقيلة على حامليها وحرمتهم السعادة والهناء والسكينة والحب والسلام، وكل ذلك من صنع أيديهم عندما تركوا الأنا تتمكن منهم دون رقيب من ذات واعية.

وفي مقال قادم - إن شاء الله - سنتحدث عن أعباء الزمن في وعي الإنسان، وكيف ينبغي له أن يتعامل مع هذه الأعباء، سواء كانت بالنظر إلى أحزان الماضي أو هواجس المستقبل.