خلال المحاكمة الشهيرة لحجة الإسلام عبدالله نوري - وزير الداخلية الإيراني السابق وتلميذ الخميني - عام 1999 وقف نوري أمام القاضي حجة الإسلام محمد إبراهيم نكونام معترضا على اتهامه بالكذب ونشر معلومات خاطئة والعمل ضد الإسلام بالقول: "إذا كان ما يقوله "القاضي" صحيحا فأنا أعد رمزا للمؤسسة الدينية، وإذا كان ما يقوله خاطئا فهو أيضا رمز للمؤسسة الدينية" في إجابة كاشفة إلى حد كبير عن معضلة تحول رجال الدين إلى مؤسسة وتداخل عمل أي مؤسسة دينية بالسياسة كما هو الحال في إيران، فاختلاف العلماء الطبيعي - بل المطلوب مجتمعيا - يتحول تلقائيا إلى انعكاس سياسي يضعضع من أسس الدولة.

معضلة إيران أن أيديولوجيتها قائمة على سيطرة رجال الدين فكريا على توجهات الدولة، لكن بعد مضي جيل من ثورة الخميني عام 1979 اختلف رجال الدين أنفسهم وهم أبناء الثورة حول تفسيرها وتفسير توجهاتها وحول مستقبل الدولة. لم يأت الخطر إلى إيران من خارجها كما كانت تظن دائما، بل من داخلها ومن أبناء ثورتها وفكرها. هذا الأمر سنة من سنن التاريخ التي لا فرار منها، فحكم رجال الدين لا يتسبب في نهاية المطاف إلا في إيقاع الضرر بالدين نفسه.

لقد رأى عبدالله نوري أن إيران تواجه مشكلة داخلية حقيقية، وأن من يقف على رأس هذه المشكلة هم رجال الدين المحافظون من أبناء الثورة التي يدعون حمايتها، فهم قادوا إيران على مدى السنوات لأن تتحول إلى واحدة من أكثر الدول التي ينتشر فيها إدمان المخدرات والإلحاد عدا عن الفشل الاقتصادي والعزلة السياسية العالمية. نوري كأحد رموز الإصلاحيين الإيرانيين حاول اتخاذ خطوة إصلاحية بالخروج إلى العلن وإعلان أفكاره الإصلاحية بشجاعة، ولكن مصيره آلِ إلى محاكمته وتهميشه سياسيا وسجنه لسنوات.

المعضلة التي كشفها عبدالله نوري خلال محاكمته هي أن وجود رجال الدين في الحكم يحولهم من مجرد رجال دين يمثلون أنفسهم إلى مؤسسة دينية تمثل الدين نفسه، وتقع الأزمة عن اختلاط ذلك بالسياسة وتداعياتها وانعكاساتها، فالدين بما يحمله من نقاء ومثل عليا، يشكلان أساس الإيمان ويوجهان الأخلاق، سيرتبط بالسياسة ومتطلباتها غير الأخلاقية. ملالي إيران أنفسهم الذين جاؤوا بثورة إسلامية وضعوا أيديهم في يد الولايات المتحدة وإسرائيل خلال حربهم مع العراق، فالصواريخ الأميركية التي قام النظام الإسلامي في إيران بشرائها من الولايات المتحدة فيما عرف لاحقا بفضيحة "إيران جيت" تم إرسالها على متن طائرات عسكرية إسرائيلية من تل أبيب إلى طهران، وسلمها عملاء مخابرات وعسكريون إسرائيليون لنظرائهم الإيرانيين، وقد ذكر كتاب تريتا بارسي "التحالف الغادر: التعاملات السرية بين إسرائيل وإيران والولايات المتحدة" (Treacherous Alliance) هذا الموضوع بتفاصيله الموثقة.

إن الانعكاس الخطير لمثل هذه الحقائق هو أنها تقود لاحقا إلى رفض الناس للدين كون من يفترض بهم تمثيل الدين (أي مؤسسته) هم أول من يقوم بخطوات تعارض أسس الدين كما يدعون، فالواقع على الأرض لا يعود متناسقا مع الخطاب، فكيف إذا كان هذا الخطاب - كما يدعيه أصحابه - هو الدين نفسه؟

المجتمع الذي حاول الملالي صياغته في إيران من خلال فرض رؤية أحادية للدين ومن خلال إجبار الناس على مظاهر معينة من التقوى والالتزام بمبادئ الدين - كما يرونه - وحتى بالقسوة أحيانا إلى حد القيام بحملات لتكسير "الدشوش" (أطباق الساتلايت) أو القبض على النساء اللاتي لا يلتزمن بالزي "الإسلامي" كما تفسره المؤسسة، كل هذا لم ينتج عنه سوى إيجاد مجتمع منقسم من الداخل يخفي فيه الناس أكثر مما يبدون، واليوم تشير كثير من التقارير الصحافية والسياسية إلى وجود أزمات كبيرة داخل المجتمع الإيراني من انتشار الإلحاد والمخدرات والجنس والشذوذ بين الشباب بمعدلات مرتفعة، يضاف إلى ذلك أن معدلات الرفض السياسي بين الشباب مرتفعة والثورة الخضراء عام 2009 كانت مؤشرا عميقا على ذلك، وبدلا من الاعتراف بالواقع لجأت تلك المؤسسة إلى إلقاء اللوم على "العدو الخارجي" وعلى "مؤامراته"، فقادت بلدها إلى مزيد من الانغلاق ففاقمت بذلك أزمتها.

تحول الرمز الديني لمؤسسة تمثل الدين يعني إسقاط الدين في فخ الخطأ البشري، وهو ما يتسبب مع الوقت في اهتزاز الإيمان بالدين نفسه، ويرفع من حالات الرفض الاجتماعي سواء للدين أو المؤسسة التي تمثله كونهما كليهما أصبحا واحدا في نظر الناس. تجربة إيران بعد أكثر من ثلاثين عاما على ثورتها كشفت أن المؤسسة الدينية حالها كحال أي مؤسسة إنما هي عرضة للتآكل الداخلي نتيجة الاختلاف الطبيعي الذي أوجده الله في البشر، وإذا ما ربط الدين بالمؤسسة فإن الدين يصبح عرضة للتآكل وهو مكمن الخطر.

إجابة نوري سالفة الذكر في محاكمته توضح بجلاء أن تحول رجال الدين إلى رموز للدين نفسه لا فكاك من ضرره، لأن أي مؤسسة مهما بلغت من قوة لن تتمكن من معاداة قوانين الطبيعة التي أوجدها الله، وأولها الاختلاف الطبيعي في الفهم والتأويل. عبدالله نوري الذي سعى كأحد رموز الإصلاحيين الإيرانيين لأن يمثل صوتا مغايرا لرجل دين تحول إلى تهديد حقيقي لتلك المؤسسة الدينية، كون المؤسسة بنت نفسها لا على قوة الاختلاف والتدافع، وإنما على ربط كل شيء في الفضاء العام بالدين وباحتكار تأويله وتفسيره. هكذا أصبحت أي مقالة ناقدة في صحيفة "خرداد" التي أسسها نوري هجوما على الدين نفسه، وتحولت أي فكرة إصلاح للمجتمع أو تطويره إلى معاداة للدين نفسه، حتى آراء نوري السياسية كالانفتاح على الغرب اعتبرت بطريقة غير مباشرة معارضة للدين، لأن الرأي بعدم الانفتاح صادر عن المؤسسة الدينية التي تمثل الدين نفسه!

تحول الدين إلى مؤسسة يخلق لها، كحال أي مؤسسة، مصالح تعمل على الحفاظ عليها، ويتحول رجال الدين بالتالي إلى رجال مؤسسات ينطلقون من مصلحة المؤسسة لا مصلحة الدين المرسلة التي تستلزم النظر إلى الواقع وتأويله. حفاظ المؤسسة الدينية الإيرانية على سطوتها أصبح مرتبطا بقدرتها على فرض آراء تعادي الواقع الاجتماعي كونها تخاف من ابتلاع ذلك الواقع لها، ومن ثم يهدم مبررات وجودها ودورها المفترض بين الناس. في إيران على سبيل المثال تمنع النساء إلى اليوم من قيادة الدراجات الهوائية والبخارية في الشوارع حفاظا على عفتهن، وهو قرار لا يبرره سوى سعي المؤسسة الدينية إلى الحفاظ على دورها المفترض كحارسة للفضيلة في المجتمع. مثل هذا القرار لم يأت من منطلقات دينية قدر ما جاء من منطلق السعي إلى الحفاظ على المؤسسة وتبرير وجودها بأي ثمن.

لكن الثمن الحقيقي الذي لم يتم التنبه له وكشفته الثورة الخضراء عام 2009 هو أن المؤسسة الدينية بفقدها للواقع قامت بفقد الناس أيضا وأولهم فئة الشباب. خلال تلك الثورة لم يكن لصوت المؤسسة أي صدى لدى الشباب أو قيمة عندهم، بل أصبح كثير من الأشخاص والرموز الذين آمنوا بتلك المؤسسة سابقا من معارضيها، وقضية عبدالله نوري - ابن الثورة وتلميذ الخميني - دليل ساطع على ما تقود إليه مأسسة الدين مع الوقت، فمن جهة يصبح أي صوت جديد خارج المؤسسة يسعى إلى تقريب الدين بالواقع هو عدو للمؤسسة، وتصبح معاداة المؤسسة معاداة للدين فينتهي الحال بالناس إلى معاداة الدين.