كنت وما زلت أتذكر يوم الثلاثاء حين أخرجونا من المدرسة والكثير فيها يبكون، والناس في الشوارع يبكون، دخلت بيتنا فوجدت أمي تبكي هي الأخرى بحرقة، وتقول باستغراب وحسرة عظيمة: "استشهد الملك فيصل..!" كنت وقتها طفلا صغيرا، ولم أدرك حينها حجم المصيبة والكارثة، لكنني جلست أبكي لبكاء أمي، حفظها الله.. أتذكر مشهدا لن يغيب عن عيني وذاكرتي وتغلبني الدموع كلما لاح أمام عيني حتى اليوم.

الجمعة الفائتة تكرر المشهد نفسه ولكن بطريقة مختلفة، فجعنا فيها بوفاة والد كل مواطن سعودي وعربي، "بابا عبدالله" الملك الإنسان عبدالله بن عبدالعزيز، رحمه الله، وهذه المرة ولسرعة وتعدد وسائل التواصل انتشر الخبر بشكل واسع، فكانت مشاهد تساقط أدمع الناس في الشوارع، في الدكاكين، في السيارات، وفي كل مكان تقريبا، مشهدا أليماً ومؤثرا يعكس بصدق حالة وحجم الحب والعلاقة بيننا وبين هذا الملك العملاق، وليس غريبا أمام هذه اللوحة الإنسانية أن تشعر بتوقف الكلمات وصغرها ومحدودية تعبيرها. فكيف حين تقرر الكتابة عن شخصية بحجم الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، رحمه الله، هنا تكون المعركة مع الحروف والكلمات أكثر ثقلا وصعوبة، ويكون من المستحيل الوفاء بما في النفوس مع تعدد مجالات الحديث واتساع دائرته...

لذا قررت أن أنحاز كثيرا جدا لإنسانية وروح هذا الرجل العظيم، الذي أثر في تاريخ وحياة كل من عرفه أو قابله أو عاصره، واتخذ من الحب شعارا له، فلم يترك مجالا لأحد إلا أن يحترمه ويحبه ويستلطفه، فاحتل بطبيعة وخصوصية شخصيته العفوية وبساطتها المحبوبة، كل مساحات قلوب السعوديين والعرب والمسلمين.

وهنا سأسرد بعض نماذج تلك المحبة، التي حظي بها – رحمه الله - بين شعبه على اختلاف أطيافهم وتوجهاتهم، من المثقفين والأدباء وبسطاء الشارع. فهذا صديقي الأديب والمفكر محمد زايد الألمعي ينشر صورة مصافحته له، ويضعها صورة شخصية لحسابه بموقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك)، كتعبير عن محبته له وحزنه على رحيله، وكذلك فعل الشاعر محمد عابس الذي نشر صورة مماثلة علق عليها بقوله: "لن تغيب هذه اللحظات النادرة عن ذاكرتي.."، ونشر الشاعر أحمد البهكلي قصيدة رثاء رائعة قال في مطلعها:

"على مثله تبكي البواكي وتندبُ

وما كان إلا الطيب بل هو أطيبُ

وفاز بود الناس إذ عاش سامقاً

لهم فأحبوه، ومنه تقربوا"

وقبل أن توافيه المنية - رحمه الله - بيوم واحد قابلت مصادفة رجلا مسنا في إحدى شركات السيارات بجيزان، كان يتحدث بحب شديد قائلا: "الملك عبدالله خلانا ملوك". (أي جعلنا ملوكا) ثم انخرط في الدعاء له حتى نسي ما جاء من أجله.

أيها الملك الراحل عبدالله، لك إنه لمن الصعب أن يُجمع الناس على شخص مثلما أجمعوا على محبتك وتقديرك، فقد وحّدت شعبك على محبتك حيا، ووحدت حزنهم عليك ميتا، وها هم يودعون نعشك وداعا يليق بك أيها الملك الإنسان، وإننا والله على فراقك لمحزونون يا أبا متعب.

وإن مما يخفف ألم المصاب وهو عزاؤنا جميعا، أن رتبت البيت السعودي وجعلته واثقا مطمئنا، وتركت في الناس بعدك خليفة حكيما، ورجلا قياديا خبيرا بأمور الأمة وشؤون الدولة، بحجم الملك الجديد خادم الحرمين الشريفين سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، حفظه الله، أحد أقوى من تخرجوا من مدرسة المؤسس المغفور له بإذن الله الملك عبدالعزيز آل سعود، رحمه الله، والذي يعد الرجل القوي بتجربته السياسية العريضة، التي تكونت منذ أيام رفقته لوالده المؤسس، امتدادا لشغله منصب أمير للعاصمة الرياض لـ50 عاما، وتقلده ولاية العهد ووزارة الدفاع، ورئاسته للعديد من المؤسسات الاجتماعية الخيرية، وتمكنه عبر ذلك التاريخ الحافل من تقديم شخصية القائد المثالي للمرحلة، وهو الرجل المهتم والشغوف بالتاريخ والتراث وثقافة المكان وإنسانه، وحرصه على جمع المؤلفات التاريخية، وهو ما سيسهم قطعا في قادم الأيام، في كتابة فصل جديد من مسيرة نجاح هذا الخليفة وعبقريته، وإكمال سلسلة الملوك العظماء.