ما الذي يجعل إنسانا ما لا يرى أو لا يتأثر بالنتائج السلبية التي يتسبب فيها سلوكه على الآخرين؟ كان هذا السؤال الجوهري لمقالة الأسبوع الماضي. كانت الحالة كالتالي: فتاة اشتركت مع زميلاتها في القيام بمشروع بحثي دراسي، تم توزيع العمل بشكل عادل وبموافقة الجميع، لم تقم صاحبتنا هذه بالمطلوب منها مما جعل زميلاتها أمام خيارين: الأول أن يتعطل كل العمل ويخسر الجميع فرصة تسليم العمل في موعده والحصول على الدرجات المتعلقة بإنجاز هذا العمل. الثاني: أن تقوم المجموعة بإنجاز عمل هذه الطالبة نيابة عنها وتخفيف الضرر. كنا نحاول ردة الفعل التالية: صاحبتنا لم تشعر بأي تأنيب ضمير بل تحرك في داخلها شعورا بالراحة ولذة الانتصار. لنتخيل هذه العبارة المرافقة لابتسامة باهتة: "حصلت على الدرجات بدون أي تعب!".

كيف اختفى ألم زميلات صاحبتنا هذه عن تفكيرها لتطلق مثل هذه العبارة؟ استعنّا كذلك في المقالة السابقة بمقولات مباشرة من تجارب الناس تشير إلى أن هناك حسا مفقودا عند صاحبتنا، وأن هذا الحس مهم جدا لدرجة أنه يعبّر عن الحياة. الحي هنا هو من يحمل حسا داخليا يدفعه للقيام بمسؤولياته في الحياة ويمنعه من التنحي جانبا والاقتيات على جهد الآخرين. "الحي يحييك والميت يزيدك قهر" يردد كثير من الأمهات وكثير من الآباء كتعبير عن الرضا أو السخط من سلوك أولادهم.

اليوم سأتحدث عن جواب مقترح للسؤال أعلاه. الشعور الذي يبدو أن الإشارة متجهة له في وصف الحياة هو شعور الخجل. الإنسان الحي هو الإنسان الذي يخجل من أفعاله الضارة بالآخرين. الإشارة إلى الخجل هنا هي الإشارة إلى الشعور الذاتي الداخلي الذي يشعر به الإنسان حين يرتكب أمرا لا يرضاه هو لنفسه. بالتأكيد ككل شعور فإن الخجل يمكن أن يكون تعبيرا نافعا أو ضارا للفرد ولمن حوله ولكن الأكيد أن الخجل شعور صادق. صادق بمعنى أنه شعور مباشر بين الإنسان ونفسه ولا مجال فيه للكذب والمجاملة. من المهم هنا تحديد طبيعة هذا الشعور وتمييزه عن غيره. في العربية الخجل يشمل الشعور الذي قد يمرّ به الفرد بسبب مروره بتجربة جديدة كدخول العريس على زوجته لأول مرّة كما يشمل شعور الإنسان بالعار لقيامه بفعل مخز كالكذب.

في هذا المقال أستخدم الخجل بالمعنى الثاني، الخجل كتعبير عن شعور الفرد بالعار من سلوك ما ارتكبه كالسب أو الشتم أو السرقة أو إيذاء الآخرين. الخجل بهذا المعنى له خصيصتان جوهريتان: الأولى أنه شعور ذاتي سلبي، أي أنه نقد ذاتي. ثانيا: أنه مرتبط بالموقف من الآخرين. أي أنه شعور اجتماعي مرتبط بموقف الإنسان من الآخرين وأثر سلوكه على حكمهم عليه.

نعرف من علم النفس وعلم نفس التربية أن الخجل يمكن أن يكون طاقة مدمرة لشعور الفرد بقيمته الذاتية. هذا يحصل في سياقين: الأول حين يخجل الفرد من أمر لا يد له فيه كأن يخجل من لونه أو عرقه أو شكله. الثاني: حين يتأسس الخجل على عملية تشكيل اجتماعي بدون إرادة فردية. بمعنى أن يخجل الفرد ليس لأنه يعتقد أن ما فعله خطأ فهو لم يكن له قرار أصلا ولكن لأنه تمت برمجته اجتماعيا على هذا الموقف. يبقى هنا الخجل الذي يبدو أنه الأساس العاطفي للضمير الأخلاقي، وهو أن يخجل الإنسان من نفسه بسبب أمر ارتكبه هو بإرادته ويعلم تماما أنه فعل خاطئ. مثال ذلك شعور الفرد بتأنيب الضمير لأنه أوقف سيارته في المكان المخصص لذوي الاحتياجات الخاصة، وهو يعلم أن هذا السلوك مخالف للقيم الأخلاقية التي يؤمن بها.

بناء على هذا التصوّر يمكن القول إن صاحبتنا لم تشعر بالخجل من عدم القيام بعملها الذي وافقت عليه ابتداء. بمعنى أنها لم تمر بحالة الوعي التي تجعلها تقرأ الموقف ثم تستنتج منه حكما تأمليا تحاسب نفسها من خلاله. عادة هذه هي آلية التعلّم عند البشر. يمرون بتجارب ويستنتجون منها نتائج تؤثر في تجاربهم المستقبلية. هذا ما يمكن تسميته بالنمو. النمو الأخلاقي إذن هو عملية مرور الفرد بتجارب مع الآخرين وتأمل هذه التجارب وانعكاسها على علاقاته اللاحقة مع الناس. نلاحظ هنا أن الآخر، الطرف الثاني في العلاقة الاجتماعية، جزء أساسي من عملية النمو الأخلاقي، بمعنى أنه شريك أساسي في عملية فهم الإنسان لمعنى سلوكه. الأخلاق بطبيعتها تتعلق بعلاقات الناس، وبالتالي لا يمكن فهمها من خلال طرف واحد. لهذا يمكن القول إن إخفاء الآخر يعيق النمو الأخلاقي. الأناني، أي الإنسان الذي لا يحسب حساب الآخرين حين يتصرف، عاجز عن الخجل، وبالتالي عاجز عن النمو الأخلاقي. عدم رؤية الإنسان لآثار سلوكه أو عدم الاهتمام به قد ينتج لعطب بيولوجي مرضي ليس هو موضوعنا هنا. موضوعنا هو عن الإعطاب الاجتماعي والفكري لقدرة الإنسان على النمو الأخلاقي، أي قدرته على رؤية الآخرين ومشاعرهم في علاقاته. أي خجل الإنسان من نفسه حين يؤذي الآخرين. جوابنا هنا إذن أن صاحبتنا كانت أنانية في سلوكها مع زميلاتها، وهذا ما سينقلنا إلى مستوى آخر من النقاش نحاول من خلاله فهم الأنانية من منظور أخلاقي.