لم يكد خبر وفاة الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله وأسكنه جناته الفسيحة- يصل إلى الأسماع، ولم تكد دمعات ملايين الباكين تجف، حتى بدأ محللو الغفلات التجديف في الاتجاهات كلها، وكأنهم يهذون بما يتمنون، من وجود صراعات وخلافات، ستقوض أركان بيتنا الكبير، وكأن الوطن كله سيشتعل فجر الجمعة!
المغالطات كلها مكشوفة، وأصحابها كذلك، وتخرصاتهم "عادية"، ومكررة. والجديد أن مثل هذه "الرؤى الفريدة"، لم تعد تأتينا من الخارج، وحسب، وإنما بات بعضنا يرددها ويكتبها ويغرد بها، ليظهر في صورة العارف ببواطن الأمور، أو لحاجة في نفوس اليعاقيب الذين وجهوه إلى قول ذلك، ثم يحشدون "صِبية" آخرين لتأييده، وهم قد يعون خطورة ممارساتهم، أو لا يعونها، وأجزم أن كل ما يعونه هو "السمع والطاعة" للمستترين الحالمين بإعادة الحلم.
لا أحد يرفض حرية الرأي، بوصفها حقا شخصيا، لكن حدودها يجب أن تتوقف عند ما يعرف في الدنيا كلها بـ"الأمن القومي" الذي هو: المستقبل، والأجيال، والحياة، والمكتسبات، والفعل، والتأثير الحضاري، وكلّ شيء.. كلّ شيء، دون استثناء، ومن أجل الحفاظ عليه تهون العظائم؛ لأنه أعظم مكتسب.
في المقابل، نرتكب -دون أن نعي- أخطاء إعلامية فادحة، لها أثرها العكسي، فنؤكد بسذاجة -مثلا- على سلاسة انتقال السلطة، ونحشد البرامج والصفحات لتحليل هذه الظاهرة، وكأننا كنا نتوقع غير ذلك، أو أن هذه السلاسة جديدة، بينما هي القاعدة الثابتة التي لا تحتاج إلى محللين يكررون معاني الدهشة من تلك السلاسة، غير مدركين أن تأكيد المؤكد قد يفضي إلى التشكيك فيه، أو يقود الأذهان نحو تصديق "منجمي السياسة" الذين لم نعرف عنهم، أو نسمع منهم سوى أمنياتهم المدثرة بمعلومات هشة قائمة على الحدس والتكهنات والتخرصات والتلفيقات.
حين تصبح الأحاديث السياسية الملفقة التي "ليست بنبعٍ إذا عُدت ولا غَرَب" - كما قال أبو تمام ذات نصر- علكةً تلوكها أفواه المتحادثين، ومادة حوارية في مواقع التواصل الاجتماعي، فإن ذلك يعني وجود مشكلة ثقافية؛ لأن تلك التكهنات -في أصلها- قائمة على معطيات ضعيفة، وأدلة هشة، أو أنها صادرة عن بعض ذوي الأجندات، ما يعني أننا شعب ينقاد دون أن يمحص، أو يفكر، أو يتأمل، أو "يشغل مخه"، أو -على الأقل- يتنبأ بأهداف صناع الإشاعات، وأهداف فرقهم التي تعمل على تحويلها -ذهنيا- إلى حقائق.
لقد بلغ الكذب بأولئك حدود إثارة الأسئلة عن المحسومات، من مثل التساؤلات عمن يكون نائبا ثانيا لرئيس مجلس الوزراء! وهو أمر محسوم في نص البيان المعلن، لكنهم يتغافلون، وبلغ الانحطاط الأخلاقي بآخرين حدود تقريع من يعبر عن حزنه على رجل أجمع الصادقون المستقلون من الأطياف المختلفة على حبه، وما ذاك إلا لأن التعبير عن الحزن علانية مناقض لما يودون توجيه الرأي العام إليه، وصادم بالنسبة إليهم، وهم الذين عملوا على "الاستلاب" زمنا، فلم يكن؛ لأنهم أوهى وأضعف وأكذب من أن يصدقهم مؤمن بوطنه.