على مر التاريخ كان الاعتقاد السائد بين بني البشر، حصر التميز والراحة والفخامة في محيط الطبقة العليا، وهو مفهوم خاطئ، بنوه على أساس أن المال له صلة بالسعادة والتميز، وأثبتت دراسات حديثة أن السعادة لها أسباب أخرى كالعطاء والإحسان والقناعة وما المال سوى أحد أسبابها، لهذا بات العكس هو الصحيح وأن الطبقة الراقية هم الطبقة الوسطى على مر العصور، وذلك لعدد من العوامل والمبررات:

- فمعظم الأفراد المنتمين للطبقة الوسطى هم في الأساس كانوا مندرجين في ظلال الطبقة الكادحة، وكان تحولهم وانتقالهم للطبقة الوسطى ناتج عن أحد أمرين: إما بقدرة الساعي عليهم كأب أو أخ أو قريب أو مهتم فنشأت على ذلك بقية أفراد الأسرة، وإما أن الفرد بذاته نقل نفسه ومن يعول من حالة الفقر المؤلم لحالة الكفاف المغني وهم معه، ولا يهم بأي الطريقين صار ذلك، المهم هو أنهم أصبحوا من الطبقة المتوسطة التي غالبا معيشتها قائمة على توفر معظم الأساسيات ومن ناحية أخرى تفتقد لبعض الأشياء، مما ينتج عنه استمرار الجري والسعي لتوفير المفقود والمحافظة على الموجود، بمعنى أن الطموح تراه لا زال دافعا نحو بلوغ غاية نافعة وسد حاجة ماسة والذي ينتج عنه بقاء الحماس والجد والسعي والمكابدة والتفكير والإصرار الجاد، وما هو أهم هو المحافظة على أسباب ومصادر ومؤثرات الرزق من علاقة بالله وحسن طباع ودوام الإحسان للخلق، أي ثبات خصلة الخير والبر والفضيلة، إذ إن أغلب الطبقة المتوسطة تراهم أولي صلاح وخيرة، لدرجة أنه يقل فيهم التبذير وتلمس فيهم التدبير، وقد يكون عبادة أو سعيا لتجنب عواقب ونتائج أخرى.

طبيعة الحياة في الطبقة الوسطى يغلب عليها التقلب بين الخشونة والإنعام، وهذا التزاوج والتمازج بين الأمرين ناتج عن تأقلمهم في فترة مضت على حياة الطبقة الكادحة، بمعنى أنهم أحسوا ولامسوا وعاشوا حالة الحاجة والمسكنة، وتكيفوا مع أوضاعها المتقلبة التي لا تخرج عن إطار الفقر المزعج والمحرج على سبيل المثال: استمرار التغذية من خلال صنف معين لفترة طويلة أو البقاء على زي معين من الملبس لفترة طويلة هذان المثلان لهما أثر كبير وعميق في نفس الإنسان، إذ تغرس فيه بذور وأخلاقيات التحمل والصبر الجميل، ويعلو ويعظم أيضا مقدار النعمة التي تزداد على قوته اليومي وتجعله هنيا محمودا ومهما، والأهم من ذلك هو أن الطبقة الوسطى هي الأقدر والأشجع على مواجهة الكوارث والحروب والأزمات، وتراهم أكثر مشاركة ومكافحة وخاصة أثناء الحروب؛ لذا ترى أن أعداد ضحايا الحروب والمعارك القتالية هم في الأغلب من الطبقة الوسطى.

ومن أسرار تميز الطبقة الوسطى هو أنهم جمعوا بين مرارة الفقر والجوع ولذة الراحة وطعم الرفاهية المحدودة، فالفقر جربوه والرخاء جربوه، بخلاف الفقير تراه في المحن والملمات والحروب لا زال طامعا في الغنى وإشباع رغباته المادية والجنسية ومحبة التملك، فتجده لاهفا وراء تجميع الممتلكات لإشباع جانب النقص الذي أعيته وآلمته لفترات طويلة فهو منهمك خلف التملك هو وأقاربه المساوون لفئته وطبقته، بل تجدهم قد شكلوا فرقا وعصابات وخلايا ووزعوها نحو الأحياء بغية كسب الثروات والمسروقات، فهم لا يهمهم من يغلب، بل يهمهم ماذا يغنمون وعلى ماذا يحصلون من تلك الحروب والفوضى؟ وما مر بمجموعة من الدول المجاورة منذ سقوط صدام مرورا بتونس وليبيا ومصر وإلى إلخ.. لهو أكبر شاهد على ذلك، ولا يلام الفقير لبحثه عن لقمة يسد بها فاقته، بل يلام على حرصه وشرهه وطمعه، وفي المقابل ترى الثري قد مسه الهم والغم والحيرة والعجز عن مواجهة الشدائد؛ وذلك لغياب أهم مقومات المعيشة التي اعتاد عليها، وما هي تلك المقومات سوى كماليات زائفة باتت في عينيه ضروريات مهمة لا يهنأ له العيش بدونها، ومن أسباب عجزه وهونه وضعفه في الحروب والشدائد هو افتقاره لمبادئ وأخلاقيات الحياة الصعبة المبنية على قوة الجلد وقلة الزاد والرضا باليسير العسير لاعتياده على حياة مليئة بالترف والزيادة عن الحاجة، فيصبح في الشدائد والمحن خاضعا مطيعا منكسرا، فلا يكاد يطيق الحياة ويستسيغها، فينتج عنه أن تهزم روحه فيتبعه جسده فيموت قبل الموت.

لا بد من الاستثناء فمن المترفين والأغنياء من فيهم بأس وشدة وشجاعة وثبات ليست في مئات الرجال، وبعض المحتاجين ترى فيهم الأمانة والمروءة والصدق والوفاء رغم بساطة العيش وقلة الموارد، وهناك من هو متوسط الحال قد ينقلب حاله فتجده خائنا كاذبا، لكن هي مجرد قراءة أرجو ألا يكون فيها انحياز نحو الطبقة الوسطى المتميزة.