رحل ملك القلوب والعقول خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله ـ رحمه الله ـ لتغرق الأمة بين دموعها حزناً وألماً والتأريخ كمداً بعلاقة لا حدود لها في ليلة دعت له البشرية في ثلث "الله" الأخير من الليل، وصحت ابتهالاً وصلاة في جمعته المباركة عليه من شتى المعمورة التي نقش فيها حبه، ورغم العزاء والألم والزمان والمكان سيبقى "أبو متعب" كاريزما أوطان من "الحب" ورقماً صعباً وشهادة "تأريخ" تحبو نحوه وعلاقة أبدية تزرع تاريخ "السعودية" الخالد وأوطان الحب والعدل والولاء.. يعترف فيها العالم بأسره بأن المملكة فقدت قائد الأمة والحكمة والعطاء بعد أن نذر عمره في خدمة دينه ووطنه لتبقى ذكراه ومنجزاته على حدود الوطن وخارجه حتى نحور أعدائه ولو كره الكارهون!

وسنةٌ اقتضاها الخالق عز وجل في خلقه ألا تتوقف الحياة عند موت أو حياة إنسان، وذاك وطننا الولاّد ومنجم الرجال؛ فيترجل كريم ويخلفه آخر ليتمم مسيرته، فإن كان العالم يغرق بديموقراطياته وجمهورياته وتكهنات مكرورة هنا وهناك بأسئلة تترى بترهات نوايا أصحابها وخيباتهم فإن تاريخنا يوقف تلك الأسئلة والزمن معاً! ولو عاد بنا التاريخ أو عدنا به لوجدنا هذه الحقيقة منذ عهد المؤسس الملك عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ وحتى عهد الملك سلمان، حفظه الله، فبرحيل خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله ـ رحمه الله ـ الصاعق يصنع حتى في موته ومع إخوته دروساً للتاريخ في الإعلان المباشر لانتقال الحكم بيسر التنبؤ وسلاسة الحدث؛ لتلطم الأفواه المرجفة وتنسف الإشاعات "المجتهدة" المنكسرة كعادتها نحو لحمة الوطن وإخلاص حكامه وولاء شعبه، لندرك نعمة الله علينا بوحدة الكلمة، واستتباب الأمر لأهله، كما هو امتداد تاريخ مؤسسة الحكم في بلادنا، فكان عزاؤنا منجم رجال يخلف امتداداً لعطاءات الأوطان وحكمتها بخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان ملكاً للمملكة العربية السعودية وسمو الأمير مقرن بن عبدالعزيز نائباً أميناً له، وتأبى حكمة "سلمان" إلا أن تكون حاضرةً وشاهداً على سداد الرأي وبعد النظر سريعاً، بتعيين صمام الأمان في وطننا الأمير محمد بن نايف ولياً لولي العهد، وتعيين الشاب القانوني والإداري الحصيف ذي الإدراك الواسع حكمة وتجديداً الأمير محمد بن سلمان وزيراً للدفاع ورئيساً للديوان الملكي.

ومروراً بحكمة الملك سلمان -يحفظه الله- فقد أتت من سجل حياة عملية عرفت بالتميز والإخلاص والوفاء، فهو خريج مدرسة الملك عبدالعزيز - رحمه الله - وخمسة ملوك تعامل معهم كمسؤول وأخ وعون ومشير، فكان أنموذجاً للشخصية القيادية والإنسانية الوفيّة مع إخوانه بوقفاته معهم منذ نعومة أظفاره، سائراً على خطاهم في كل ما تقلّده من مناصب ومواقع قيادية أظهر فيها سياسته وحكمته لستة عقود متعاقبة، كان رجل السياسة والحصافة كالعادة، ليعتبر سلمان أكثر الأمراء حينها الذي يُلجأ إليه لأخذ المشورة والنصح، ووفاءه مرسوماً لجميع الملوك السعوديين قولاً وفعلاً، ليس آخرها حرصه الشديد على توثيق تاريخهم ملكاً بعد آخر!

وخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان شخصية قيادية من الطراز الرفيع، مثقف مطلع على الكثير من القضايا الثقافية والإعلامية، كما أن إسهاماته بارزة من خلال دعمه واهتمامه بمكتبة الملك فهد الوطنية ودارة الملك عبدالعزيز اللتين تقومان بمهام ثقافية جليلة في حفظ التراث وتوثيق التاريخ للمملكة.. ليمتد اهتمامه إلى العلم والعلماء وإيمانه بأهميتهما فجعل جزءاً من كل في تركيزه على تعليم أبنائه تعليماً متميزاً، وفي الخط الآخر نجده حازماً مع الخطأ حتى لو ورد من أبناء أسرته، ومنصفاً لمن أراده، مشيداً لعقود من العطاء لكل لبنة من لبنات تطوير وبناء مدينة الرياض التي وضعها في قلبه فعشقته، فأصبح عنوانها الذي تحب، حتى انتقل حصناً منيعاً كوزير للدفاع والطيران وقوات الوطن كافةً.

أجمل ما في "سلمان" أنه كتاب مفتوح، يعلمه الجميع ولا يجهله أحد، دليله حرص شديد وملاحظات دقيقة حول كل ما يخص الإعلام والنقد بكل اتجاهاته رغم كثرة مسؤولياته وتعدد مشاغله، يملك إدراكاً للملكات التي يتمتع بها فكون علاقة شبكة واسعة من العلاقات الداخلية في كل رقعة من المملكة بقبائلها وعشائرها ومثقفيها وإعلامييها، وفي منعطف تقابله علاقات واسعة مع شخصيات دولية وإقليمية وعربية كونها في عقود لتتناغم هذه الخبرة المتراكمة في معرفة الأوضاع الداخلية والعربية والدولية لتشكل رصيداً ثرياً له في موقعه الجديد.

ورغم كبر حجم المسؤولية الملقاة على خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان وتركة مستقبل "الحب" التي خلفها له الملك عبدالله – يرحمه الله- إلا أن وطنه وشعبه يقابلانهما معاً بإيمان وحب أكبر بقدرة مليكنا الرفيعة على إحداث علامة فارقة في تاريخ الدولة ومواصلة المسير بها إلى المعالي، وهنا بكل الحب والولاء نبايعه بحجم الوطن ونلهج له بالدعاء الصادق من القلب أن يوفقه الله تعالى لينهض بالمسؤولية الملقاة عليه في هذا الوطن وأن يوفق ولي عهده وولي ولي عهده ورئيس ديوانه وأن يرزقهم البطانة الصالحة وأن يسدد خطـاهم ليكونوا سـنداً وعوناً للأمة العربية والإسلامية ولشعبهم ووطنهم.