في البداية نعزي كافة المواطنين والقيادة والأسرة المالكة في وفاة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، فهو على المستوى الشخصي كان من أكثر القادة العرب قربا من الشعب لما تتسم به شخصيته من تبسط وعفوية محببة لكثير من أفراد الشعب، وهي صورة ارتسمت في أذهان الناس منذ توليه مقاليد الحكم في السعودية حتى صارت هي الصورة الأبرز.
أما على المستوى السياسي فمنذ توليه دولة بحجم المملكة العربية السعودية فقد اتسمت المرحلة بعدد من التحولات الكبيرة كانت بمثابة نقاط فاصلة في مسيرة الإصلاح في السعودية. تزامن ذلك مع طفرة اقتصادية ثانية مرت على البلاد أعادت هيكلة المشاريع الاقتصادية في السعودية ودفعت كثيرا من المشاريع إلى الظهور ولعل في المدن الاقتصادية التي تتوزع في أكثر من منطقة دليلا على تلك الطفرة التي حصلت في عهده.
ومع بروز هذه الطفرة الاقتصادية فإنه لا يمكن نسيان أنها حصلت في الفترة التي جاءت بعد تحولات الحادي عشر من سبتمبر، الأمر الذي فرض تغييرات كبيرة قاد مسيرتها الملك عبدالله – رحمه الله - نحو الإصلاح والتجديد، فما بعد 11 سبتمبر وعىّ المجتمع السعودي، على أحداث عاصفة، واكتشف هذا المجتمع أيضا أنه في قلب هذه العاصفة، وهنا تبدأ الاهتزازات الكبرى والمراجعات للكثير من القضايا التي سببت الزلازل الفكرية والمجتمعية، وهذا الارتباك في مسيرة المجتمع السعودي بعد ثلاثة عقود من التنمية الأولى كان لا بد له من موازنة سياسية، لذلك كان لا بد من وجود شخص يحمل كاريزما خاصة لقيادة دفة هذا الوطن إلى المنطقة الآمنة، وكان الملك عبدالله – رحمه الله - رجل المرحلة، الذي حمل لواء التغيير والتطوير والإصلاح فقام بعدد من العمليات الإصلاحية الشاملة لتعيد تنظيم البيت السعودي، وظهر ذلك في العديد من المجالات كالاهتمام بالتعليم العام والتعليم العالي والابتعاث والحوار الوطني وحوار الأديان، ولعل جامعة (كاوست) كانت أحد أهم المشاريع العلمية التي تأسست على الرؤى الفكرية الجديدة، كما كان مهرجان الجنادرية للتراث والثقافة أحد المشاريع الثقافية الأصيلة التي كانت له اليد في استحداثها حتى قبل كونه ملكا.
هذه الذهنية الإصلاحية لم تكن وليدة اليوم فقط، فلها امتدادها التاريخي فهي تضرب في العمق الزمني منذ أكثر من خمسين عاما، حيث زامن الكثير من التحولات السعودية التي أخذت بالمجتمع السعودي إلى مراحل صناعة الدولة الحديثة، في ظل أوضاع الصراع العربي/العربي لدى القوميات العربية حتى طالت تأثيراته الداخل السعودي، إلى عدد من التنظيمات القومية في الخمسينات إلى السبعينات الميلادية، وخاصة في تأثيرات المد الناصري، وهي التأثيرات التي كانت تهدد استقرار الدولة واقتربت من الحدود السعودية في حرب اليمن حتى انتهى المد الناصري لاحقا بإخفاقات عديدة على كافة الوطن العربي. هذا المد جعل الملك عبدالله – رحمه الله - في عمق الأحداث منذ التحولات التي فرضها الملك فيصل بن عبدالعزيز، وتمتد تلك الفترة إلى الملك خالد، الذي كانت فترته تتسم بالطفرة الاقتصادية الأولى ليرى الملك عبدالله تحولات المجتمع السعودي ويعيها، حيث ينتقل المجتمع من المجتمع الرعوي نسبياً في كثير من جغرافيته، إلى المجتمع الحديث، ودخول التقنية التي أفرزت تحولات اجتماعية عديدة.
في مقابل كل ذلك كان مد الحركات الإسلاموية يتحرك بقوة فوق أنقاض التيارات القديمة، لتعيد الذاكرة تمرد الإخوان وموقعة السبلة من جديد بعد أن طواها النسيان مع حركة جهيمان واحتلال الحرم المكي في أول يوم في القرن الهجري الحالي حتى تم القضاء عليها، لكنها تصبغ المرحلة بالخطاب الصحوي الذي أعادت وهجه الحروب الأفغانية، وأحداث حرب الخليج الثانية لتتسم فترة التسعينات بمد الخطاب الصحوي، إلى أن وصل مد الحركات الإسلامية إلى أحداث الـ11 من سبتمبر وما لحقها من أحداث إرهابية في الداخل السعودي منذ 2003 ولم تنته حتى الآن، على الرغم من قدرة الأمن السعودي على إنهاء غالبيتها. هنا أصبح الوضع شديد الخطورة، وكان لا بد من عمليات إصلاحية كبرى وشاملة لتعيد الأمور إلى مجراها الصحيح. في هذه الفترة كان المجتمع السعودي أمام عمل جديد يطال كافة البنى الفكرية والمؤسسات الحكومية والإصلاحات الشاملة شهدت أهم عملية إصلاحية على المستوى الفكري من خلال الحوار الوطني وحوار الأديان لتقارب الأطياف الدينية والمذهبية والتيارية المتنازعة سابقا.
وخطا الملك عبدالله – رحمه الله - خطوات أوسع في داخل سياسة الحكم نفسها من خلال نظام البيعة الذي من خلاله يمكن تجاوز آليات انتقال الحكم التقليدية داخل الأسرة، حسب ما يراه أعضاء لجنة البيعة، هذا غير الإصلاحيات التي طالت القضاء وإصدار هيئة مكافحة الفساد، كما حظيت المرأة السعودية بعدد من الإجراءات لإصلاح وضعها، لعل أهمها دخول عدد من النساء السعوديات إلى مجلس الشورى، وغيرها من الإجراءات والتحولات.
لكن تأتي الثورات العربية 2011 لتعيد ترتيب البيت العربي كاملا ولتضع السعودية بين فكي الزلزال في أكثر مناطق العالم العربي حساسية من تونس ومصر وسورية واليمن وليبيا، إضافة إلى الأزمات السياسية المتكررة في العراق، وعلى الرغم من نجاح بعض هذه الثورات في التحول نحو الديموقراطية إلا أن غالبيتها وصلت إلى مرحلة بائسة جدا في اليمن وسورية وليبيا تحديدا، الأمر الذي فرض تدخل السعودية لتصحيح أوضاع كثير من هذه البلاد ونجحت في مصر، لكن لا تزال سورية والعراق وليبيا واليمن في مشكلاتها ووصولها إلى حالة ميؤوس منها رغم المبادرة الخليجية في نزع الصراع في اليمن لكن ذلك لم يتحقق، فالتيارات الإسلامية تسيطر على كثير من مناطق النزاع: الحوثيون في اليمن. داعش في العراق وشمال سورية، والنصرة في سورية والإخوان في مصر.
كل هذه التحولات السياسية أدت إلى تحولات على المستوى الاقتصادي والمجتمعي في السعودية، وكان سيد هذه المرحلة هو الملك عبدالله، ختمت مع شخصه بوفاته ليلة الجمعة الماضية -رحمه الله- وسوف تبقى التحديات والتحولات السعودية ممتدة لثقلها اقتصاديا وسياسيا، لا على مستوى الخليج فقط؛ بل على مستوى العالم العربي والإسلامي والعالم.