فُجعنا هذا الأسبوع بوفاة فقيد الأمة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله، رحمه الله، في وقت عصيب تمر به البلاد العربية جميعا، ولكن الموت لا يُخطئ أحدا ولا حول ولا قوة إلا بالله، وعزاؤنا الوحيد هو ملكنا الحكيم خادم الحرمين الشريفين سلمان بن عبدالعزيز، وهو المعروف بحكمته وحزمه وعمق سياسته وفهمه، سدده الله وأعانه.
كانت الوفاة مناسبة للتأمل في الجوانب المضيئة في الدولة السعودية بجغرافيتها الحالية، التي غيرت مسار تاريخ هذه المنطقة كلها، فلم تكن الحدود الجغرافية للمملكة العربية السعودية موحَّدة في كيان واحد طوال التاريخ، إلا في فترات متقطعة ليس فيها حكم مركزي حقيقي يجمع شتات هذه المنطقة، فالوضع الذي كان سائدا هو الحكم القبلي المحلي لكل قبيلة أو أن كل مدينة تحكم نفسها تقريبا (تُسمى مدينة مجازا وإلا فهي مدن صغيرة جدا)، ولم يكن هناك اسم يجمع هذا الكيان تحت اسم واحد إلا الاصطلاح الجغرافي الخالي من الجيوسياسي (شبه جزيرة العرب)، فلسنا مثل مصر أو العراق في تاريخهما الجيوسياسي على سبيل المثال، حيث كانتا معروفتين بهذه الحدود وهذا الكيان منذ القدم، كما أن تاريخ هذه المنطقة (أعني كامل مساحة المملكة) مليء بقصص الفقر الشديد والهجرات المتتابعة من أجل البحث عن وسائل الحياة من مياه وكلأ، بالإضافة إلى انعدام الأمن وكثرة النزاعات والحروب القبلية والعائدة غالبا لمحدودية الموارد المعيشية وصعوبة الوصول إليها.
إن الناظر لما تركته الدولة السعودية من نتائج على البلد بمحيطه الجغرافي؛ ليجد أن التاريخ قد تغير في غضون سنوات قصيرة بالنسبة إلى تاريخ تطور الشعوب والدول، حيث أصبح سكان هذه المساحة المتفرقة تحت ظل كيان واحد وانتماء واحد وشعور واحد ولله الحمد، ومنذ ذلك الحين لم نسمع حتى عن فكر انفصالي أو مطالبة بشيء يمكن أن يوصف بأنه طلب مناطقي أو قبلي أو يخص فئة دون غيرها. هذا الاستقرار والشعور لا يمكن أن يقعا لولا أن هناك سياسة حكيمة ومرضية للجميع ولله الحمد.
نرى الآن أن أبناء كل منطقة منتشرون بين المناطق الأخرى، وأصبح سائدا التنوعُ والتداخلُ في المصاهرة والعلاقات الاجتماعية، دون أن يشعر أيٌّ بأنه غريب أو مختلف عمَّن حوله. الحاضر والبادي، الأسود والأبيض، الناس بجميع طبقاتهم يجمعهم شيء واحد يساويهم جميعا تحت مسمى وحقٍ واحد؛ وهو المواطنة، وهو لم يكن موجودا قبل إطلاقا.
حتى القيم والعادات والتقاليد أصبحت متقاربة إلى حدٍّ كبير رغم المساحة الشاسعة بين المناطق، بالإضافة إلى تقارب اللهجات المحلية من بعضها، ومع الزمن أعتقد أن كثيرا من اللهجات سوف تندثر بحكم انتشار اللهجة التي تمازجت من جميع اللهجات المحلية، وأنتجت لهجة يمكن أن تسمى اللهجة السعودية التي تجمع بين جميع السعوديين.
إن من الإنجازات التاريخية التي يعود دورها إلى الدولة السعودية، وكان لها تأثير كبير في تغيير الوضع الاقتصادي والمعيشي للبلد، وأثرت بشكل تاريخي في بناء الدولة وإنشاء بنية تحتية لم تكن موجودة إطلاقا طوال تاريخ هذا البلد تقريبا، هذا الإنجاز هو التهيئة والإدارة لاستخراج النفط وبدء تصديره، ولولا الله ثم الوعي السياسي لدى الملك عبدالعزيز ذلك الحين والسماح للغربيين بالتنقيب عن النفط، مع ما كان هناك من معارضة شديدة آنذاك، حيث استطاع بحنكته أن يوازن ويتجاوز معارضة البعض آنذاك، ويسايس أولئك المعارضين بالحكمة والإقناع ومسايرة حجم استيعابهم وتفكيرهم، دون أن يضطر إلى القمع والإكراه لهم، حيث كان الجهل والانغلاق المتراكم يعمان، ولم يكن يستوعب البعض في تلك المرحلة أن ذلك في صالحهم!
نأتي على مسار الأحداث المتسارعة في الوطن العربي طيلة العقود الماضية، وكيف أن العواصف والحرائق عمت الكثير من البلدان المجاورة دون أن تمسنا بسوء ولله الحمد والمنة ثم لحكمة القيادة وحنكتها وهدوئها، كثير منا يستغرق بالتفكير بلحظته دون أن يدرس عواقب الأمور وأبعادها، وهذا ما يميز الحكيم العارف عن غيره، وكم هي العواصف التي مرت بالمنطقة وطالما استفز البعض للقيادة وحاول إرباكها للتورط في بعض القضايا المحيطة، إلا أنهم ولله الحمد مستمرون في السياسة الهادئة والحكيمة.
إننا كسعوديين يجب أن نعرف ونقدّر الوضع الذي نعيشه ووصلنا إليه، وأن نسعى جاهدين للحفاظ على هذه المنجزات، وأن نجتهد لإصلاح وطننا وتطويره، وتعزيز الوطنية واللحمة الواحدة مهما كان الخلاف، ففي ظل هذه المتغيرات والاضطرابات المحيطة في المنطقة؛ يجب أن يكون هذا الأمر حاضرا في أذهاننا، وأن نسعى إلى تأكيده وتعزيزه في قلوب أبنائنا وبناتنا أيضا، لأجل أن يستمر هذا الرخاء والأمن والاستقرار ولله الحمد، رحم الله الملك عبدالله، وسدّد الله خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان لكل ما فيه خير ونماء هذه البلاد.