المقالة التي كتبها نعوم تشومسكي، قبل يومين، عن تداعيات مجزرة "شارلي إيبدو" تستحق بجدارة أن تكون مرافعة ملحمية ضد "الإرهاب" المعاصر، حيث تختزل، وبجرأة اعتيادية من مفكر راديكالي مثل تشومسكي، المأزق الأخلاقي للغرب وضياع قيمه الجوهرية في العدالة وحرية التعبير، أمام التعامي المجحف عن الحقائق التي لا تندرج في سياق منظومته الميكافيلية.
النص الذي نشرته قناة الـCNN الأميركية يعري بجدية الزيف والنفاق في تعاطي وسائل الإعلام الغربية مع الأحداث، ليستفيض في المقارنة بين التعبئة العالمية الواسعة إثر جريمة "شارلي إيبدو" في فرنسا وبين المرور الموارب على جرائم توازيها أو تفوقها وحشية ودناءة، وسيطرة منطق الأدلجة الآثمة والقصدية في الحالتين.
يستشهد الكاتب في البداية بالهجوم الصاروخي لقوات الأطلسي على مقر التلفزيون الصربي في 24 أبريل 1999، الذي أدى إلى مقتل 16 شخصا، ويسرد كيف أن الناتو والمسؤولين الأميركيين دافعوا عن الهجوم، معتبرين إياه جهدا للتقليص من فعالية نظام الرئيس سلوبودان ميلوشيفيتش "ساعتها لم تكن صيحات وحشود تتظاهر صارخة "نحن تلفزيون صربيا" كما لم يتم البحث في جذور الهجوم داخل الثقافة المسيحية وتاريخها"، كما يتم البحث في جذور ثقافة الإرهاب في الإسلام بعد أي جريمة "فردية أو جماعية" يرتكبها مسلمون، وعلى العكس من ذلك فقد أشادت الصحف بالهجوم "واعتبره بعض الدبلوماسيين تطورا إيجابيا".
وفي السياق ذاته، يستحضر تشومسكي المجزرة المرعبة والإرهابية التي نفذها في أوروبا المسيحي الصهيوني المتطرف والإسلاموفوبي أندرس بريفيك في يوليو 2011 والتي أودت بحياة 77 شخصا أغلبهم مراهقون، دون أن تستدعي البحث والتمحيص في جذور عقيدة بريفيك الخالية من أي جذور إرهابية.
وتبلغ الحفيظة الفلسفية للباحث أوج غليانها بعد سماعه عبارة "الذاكرة الحية" في معرض رد محامي حقوق الإنسان فلويد أبرامز، الشهير بدفاعه اللامتناهي عن حرية التعبير، على نيويورك تايمز "هناك أوقات لضبط النفس ولكن وفي الضوء الأكثر عجلة من أكثر اعتداء يهدد الصحافة في الذاكرة الحية (كان يمكن لمحرري صحيفة التايمز) أن يخدموا قضية حرية التعبير بكيفية أفضل من خلال الالتزام بها، من خلال إعادة نشر الرسوم التي كانت دافعا للهجوم".
"الذاكرة الحية"، بحسب تشومسكي، مفهوم "صنف" تم صنعه بعناية ليتضمن "جرائمهم ضدنا" وفي نفس الوقت يتم استبعاد "جرائمنا ضدهم"، "فالأخيرة ليست جرائم وإنما دفاع نبيل عن مثلنا العليا، التي تكون في بعض الأحيان عن غير قصد معيبة".
ويختار المفكر المناهض للإمبريالية صورا فاقعة للانتقائية في هذه "الذاكرة الحية": التحايل والتغاضي الإعلامي الأميركي عن واحدة من أسوأ جرائم الحرب المرتكبة أثناء الغزو الأميركي - البريطاني للعراق إثر هجوم قوات المارينز على مستشفى الفلوجة في نوفمبر 2004، التعامي العالمي عن المجازر التي يتعرض لها الفلسطينيون على يد الإرهاب الإسرائيلي، وموت الكثير من الأبرياء والصحفيين في العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة.
ثم يعود الكاتب بنا مجددا إلى فرنسا و"شارلي إيبدو" الصحيفة الساخرة التي شهدت مجزرة ضد "حرية التعبير" قبل أيام، ويذكرنا بأن "حرية التعبير" نفسها طردت الرسام سيني العام الفائت على خلفية تعليق له اعتبر أنه يتضمن إشارات معادية للسامية، وفقا لقانون "جيسو" المحصن لليهود حصرا في بلد العدالة والأخوة والحرية.
أسئلة فاضحة ومؤلمة طرحها أستاذ اللسانيات على قرائه، ليكشف العورة في نطق الغرب حين يتعلق الأمر بجرائم يرتكبها هو نفسه أو إسرائيل بحق شعوب لا ذاكرة حية تؤويهم لأنهم "إرهابيون" سواء قَتلوا "بفتح القاف" أو قُتلوا "بضم القاف"، مختتما مقاله بالرد على زعيم حزب العمل الإسرائيلي الذي سارع وصرح عقب الهجوم على شارلي إيبدو: "الإرهاب هو الإرهاب. ليس هناك طريقتان لتعريفه" إذ يجيبه تشومسكي:
(على عكس التصريحات الواضحة، هناك بالتأكيد أسلوبان لتعريف الإرهاب: ما هو تابع لـ"نحن" وما هو تابع لـ"هم").
بقي أن نتمنى على شارلي إيبدو أن تنشر رسوما كاريكاتورية حول تصريحات زعيم الحزب الإسرائيلي الآنفة الذكر كي نقتنع حقا أن العالم ليس أعور إلى درجة العمى.