الدعوة إلى تقدير العقل ومنطقه في هذا المقال ليست دعوة لصنع وثنية جديدة يمثلها العقل والحداثة، ولكنها محاولة لتحريض الإنسان على التفكير والوثوق بالعقل ودوافع الحداثة ما أمكن، وفحص نتائج عملية التفكير ومنطقها، لتشكيل وعي مختلف يتماها مع ركض الزمن إلى ما بعد، ورفضه حركة العودة إلى ما قبل، فالزمن منطقيا لا يعود إلى الوراء مطلقا.
وعبر القرنين الثامن عشر والتاسع عشر قطع الإنسان على كل المستويات العلمية والفكرية والثقافية، ما لم يقطعه على مدى تاريخه البشري بالكامل، ولا أرى في هذين القرنين إلا طلائع رأس المستقبل البشري العظيم كمًّا وكيفًا، إذ لم ينطلق الإنسان بهذا القدر الهائل والمتسارع ويؤثر في مشهد الصورة المكونة لعالمه الكلي بشكل كبير فعلا، إلا حين ظهر عصر تحطيم الأغلال بأشكالها كافة على يد العلم، وإطلاقه العنان لجموح العقل وعنفوانه، تاركاً خلف ظهره الكثير من أطروحات الماورائيات والحكايات البعيدة عن أرض واقعه، فتهافتت أمام إرادته المبنية على أسس العلم والعقل نظريات الخرافة الخارقة، التي رآها دائما من نافذة المقدس والمحظور.
فلطالما تاه الإنسان بين الفكرة التراجيدية الأسطورية ورومانسية الماورائيات (الميتافيزيقا)، وفضلهما عبر تاريخه على قصته الإنسانية الواقعية وحراكه ويومياته، ما أفضى إلى فشله مرارا في تجاوز هيبة كثير من موروثاته، وتحرره من سلطة المنقولات الظنية المستندة إلى الخرافة.
وهو المأزق الذي يحرضني للمساهمة مثل كثيرين غيري على استكشاف طبيعة عمل هذه الآلة العبقرية المسماة بـ(العقل)، وطريقة عمله وإنتاجه المعقدة للفكرة، وطبيعة آلية التفكير وحيويتها، في وضعيته الحرة الخالية من المؤثرات، وتلك الوضعية الواقعة تحت تأثير الضغوطات المختلفة، التي يرسل على ضوئها إنتاج الفكرة.
وعبر مسيرة الزمن وتعاقب الأحداث المتعارضة مع نقاط المنطق تنامت الحاجة إلى حضور العقل، وإلى ارتفاع النداء إلى تقديراته وسط كثرة المتغيرات، كاسبا بذلك مساحات أكثر، وفارضا منطقه وطريقته على الحياة العامة في كل اتجاهاتها، ونتيجة لذلك جاء تدفق مد الفكر الحداثي على مختلف مناحي الحياة الإنسانية متماهيا مع ارتفاع معدلات ثورة إعمال العقل وارتباطه الوثيق بالمستجد اليومي والاحتياجات البشرية، من واقع تمرد هذا الفكر واختلافه عن العادية، وشمولية ثورته على الجمود ونزعته إلى خلق الجديد دائما وأبدا، وليدخل هذا المد الفكري جديا إلى المجتمعات العربية منذ ما يقارب القرن، ليشتد ويظهر مؤثرا على نواحي الحياة المختلفة تاليا، بعد طول مجافاة ورفض له بفعل عوامل عدة، كان أبرزها وأهمها دعوى الاعتقاد بتعارض مضامين هذا الفكر وأهدافه التامة مع تعاليم الدين ومضامينه، واعتبار الحداثة ردة عن المعتقد الديني، وهدما لثقافة وخصوصية الأمة ومقدراتها، وأن الحداثة دعوة خبيثة إلى الانحلال والتفسخ وشرّاً تجب محاربته، وهي الدعاوى ذاتها التي جوبهت بها في أوساط المجتمعات الغربية قبل العربية، خاصة حين تحطمت أمام عنفوانها الكثير من أطروحات الخرافة والأساطير في تلك المجتمعات.
غير أن هذه المواقف المعادية للحداثة وأشكالها، تؤكد تأثيرها على الحضارات كلها دون استثناء، وأنها أضافت بعداً فلسفيا جديدا لمعنى المواجهة، ومعركة الهدم والبناء الطبيعية، من خلال فرضها لأدواتها وأسلوبها على الآخر المجابه لها، وجعلته لا يجد بدّاً من الانخراط فيها دون أن يشعر على نحو ما، وهذه إحدى نقاط قوتها الذكية، فأصبح المعارضون للحداثة أنفسهم منخرطين لا شعوريًّا في روحها وإن أنكروا ذلك مراراً.!
والمؤكد أننا أمام تحولات تاريخية، تستدعي ضرورة بلورة مواقفنا من الحداثة لتصب فيما يزيد من وعينا بالمتغيرات، وجعلها مشروعا مجتمعيا حقيقيا، يخدم حركة نمو مجتمعاتنا العربية والإسلامية باتجاه إيجابي فاعل، لأن الحداثة على غرار الزمن عملية مستمرة غير قابلة للعودة إلى الخلف، وهذا منطقها الذي لم تحد عنه يوما.
وكم تمنيت لو أنني أستطيع الاستمرار في الحياة لأستمتع بذكاء مسيرتها، لكنني على الأقل سعدت بأن كنت أحد من حضروا بدايات تحرر الإنسان، وانطلاقه إلى فضاءات المستقبل، وكم هو رائع أن يحدث ذلك.