لن أدعي البطولة وأزعم أني لم أحزن لأنهم احتلوا بيتي، الـ"هم" هنا ليس دالة على "آخر إسرائيلي"، بل على سوريين.

في حديقتي شجرتا ليمون تحنوان على ورد زرعته بأصابعي وتركته هاربة ذات مساء، لا الليمون في يافا ولا الورد في حيفا، ولا البيت في فلسطين: هنا دمشق.

وفي دمشق سرق مفتاحي وقلبي، ودخل "غرباء" غرفة نومي، انسلوا في سريري، واغتصبوا دمي، ذاكرتي، حكاياتي، وسائدي المشبوبة بالحنين، وبقايا حلم صغير.

ليس المكان حجارة وأبوابا وجدرانا فقط: إنه نحن.

على قارعة الضياع، سرقوا الـ"نحن" والمكان والفكرة، خطوا بأصابع لا ترتجف: من هنا مر "حماة الوطن"، شبيحته، أوغاده، لصوصه، قتلته، خائنوه، من هنا مروا وأطلقوا رصاصهم على الوردة والحديقة والسرير وأنا.

حين تلقيت نبأ احتلال بيتي من عناصر في "المخابرات الجوية السورية" بعد ادعائهم صدور قرار رسمي بذلك، بكيت.

فكرة الاغتصاب وانتهاك الخصوصية والاحتلال لم تكن طارئة على قاموسي الحياتي منذ اندلاع الثورة في سورية، فالمخزون الفائض من العنف المرتكب بحق السوريين حولها إلى جزء حميم من لغتي الشعورية.

وليس اكتشافا مذهلا القول إن السوريين جميعا دون استثناء دفعوا أثمانا باهظة أرخصها الحجارة وأبهظها الدم، غير أن الضحية هذه المرة ليست رجلا أراه يبكي أطفاله الأموات على شاشات التلفزة، ولا أما تبكي ابنها الذي زج مرغما للدفاع عن "رئيسه"، ولا امرأة انتهك عرضها من مارق ثمل من شبيحة النظام أو لصوص الثورة: إنه أنا، بيتي، حديقتي، روحي وهويتي التي تركتها هناك، على حواف الذكرى.

ثمة فارق كبير بين مشاهدة الضحية والتعاطف معها حد التماهي أحيانا، وبين أن نكون الضحية، ففي التقمص فرصة لمغادرة المشهد حين نرغب أو نستطيع أو نُرغم، فيما الضحية صامدة في موتها، لا مهرب لها من العدم، لا عزاء لها إلا في قصاص قاتلها، ولا نسيان وهمي يخرجها من خشبة المسرح الحياتي إلى مقاعد المتفرجين المشجعين، المصفقين لموتها وبطولتها.

نعم، إني أقاسمكم قدركم بالموت أيها السوريون، ولطالما كنت كذلك، الجديد فقط أنه موت معلن، وموغل في الوضوح، موت دفعني إلى الخشبة، إلا أني كنت وما زلت أمام تضحياتكم الكبيرة مجرد كومبارس، ففي التراجيديا السورية لا بطولة مطلقة إلا للأموات.