لنقل أن من ولدوا في السبعينات، منذ مطلعها، وحتى عام ألفين، بحيث صادفتهم مراحل شديدة التناقض، وهم في طفولتهم أو مراهقتهم أو شبابهم. شهدت هذه الثلاثين سنة الأجيال الأكثر حظا والأسوأ حظا في الوقت نفسه، بين كل الأجيال التي سبقتهم، والتي ستأتي بعدهم.

أكثر حظا لأنهم عاصروا الوقت الذي انفتح فيه العالم على بعضه منذ أول شاشة فضائية أو سلك تليفون منزلي، يقدم الإنترنت، وهكذا انسربت إلى معارفهم وسلوكياتهم، والأهم من ذلك رؤيتهم للعالم، مفاتيح وآفاق لم تكن لتخطر ببال عموم من قبلهم، ولا يعرف دهشتها ولا طعمها من جاؤوا بعدهم، ووجدوا هذا الانفجار التقني الهائل لاصقا في أيديهم قبل حتى أن يسيروا على أقدامهم.

أطفالنا لا يصدقون أننا كنا نعيش بغير أجهزة جوال، ولا قنوات فضائية. جهاز الفيديو الذي كان جرما اجتماعيا لا يغتفر، ويوشك أن ينقرض اليوم، لن يمكنهم الاستيعاب حين نقول لهم إنه كان أقصى خروقاتنا، ولا تعرف كيف تشرح لهم أننا كنا نتعلق بأسطح البنايات كي نضبط إشارة "الأريل"، ليس حتى صحن القمر الصناعي، كي نلتقط إشارة التلفزيون اليمني أو المصري، في الجنوب وجدة.

لن يعرفوا حقيقة أننا عشنا زمنا ليس بالقصير تحت وطأة حادثة جهيمان، وثورة خمينية، وأصدقاؤنا في الفصول يطيرون إلى الأفغان والشيشان والبوسنة، مع حربين خليجيتين وعشرات الأحدث التي لا تقل أهمية، وفي كل هذا كان منفذنا إلى العالم هو ما استحال يوما إثر يوم إلى نكتة نتداولها ما بيننا "غصب واحد، وغصب اثنين"، إلى جوار مئات الآلاف من المحاضرات الوعظية كل يوم، مع خطب الجمعة، وكلمات مع بعد كل صلاة، وكلمات طوابير الصباح، وحصص الدين، وحتى حصص الرياضيات والفيزياء والكيمياء التي تتحول بالعادة إلى حصص في الجهاد والولاء والبراء والتكفير.

والأجيال التي تعود لهذه الثلاثين سنة هي الأسوأ حظا، لأنها كانت محل الخلل والتضحية والمساومات، وكبش الفداء في أحايين صعبة، هي التي شوهت هويتها، ودمرت علاقتها بالمجتمع من حولها وعلاقتها بنفسها قبل ذلك، هي الأجيال التي عاشت تفريق البيت الواحد إلى قسمين، والمجتمع إلى قسمين وكل شيء في الحياة صار إما خيرا أو شرا، وكل المسافة الهائلة بينهما من سعة العيش وفسحة الدين تلاشت تماما.

لقد أصيبوا في استقرارهم النفسي حيال الله وجماله ورحمته، وضربهم الوسواس حتى صاروا عاجزين عن الاغتسال أو الذهاب إلى الخلاء أو الإنجاب إلا بسؤال شيخ ما، لقد استبد بهم الهوس حتى صاروا يستفتون في الشامبو وشعيرات الحواجب وذرات الماء التي حجبها طلاء الأظافر.

هؤلاء الذين وجدوا في هذه الثلاثين سنة، الأكثر حظا، الأسوأ حظا.. هم من يفعل كل شيء اليوم.