لم نكن نعلم ونحن نتدارس تعاليم القطر الواحد، أننا لسنا أحد أقطابه البتة! لم نكن نعلم ونحن نحارب بالكلم وبالقلم، بالنثر وبالقصيدة، بالمؤتمر وبالندوة، وندعو للحوار ولتقبل الآخر، ولتلاقح الثقافات ولانتشار اللغة، للذوبان في بوتقة الإنسان والإنسانية، للدعوات المحمومة بالسلام وبالطمأنينة وبالإخاء. لم نكن نعلم أننا "أولاد البطة السودا".

قام العالم ولم يقعد! فالتفتت الدول، ودبت الأقدام والأَعلام من كل صوب وحدب، مظاهرات وتجمعات، ومراسم لكل المندوبين الدوليين من كل فج عميق، وقمم تجتمع، وقمم سوف تنعقد، لأنه تم الاعتداء على مجلة فرنسية، واعتصرنا ألما لأنهم جميعهم إنسان، لأنهم بني آدم، لأنهم بشر.

جميل هذا الحس بالإنسان، جميل هذا التقدير للنفس البشرية، ورائع هذا الحس الوطني تجاه ضحاياه! كل شيء جميل، ما عدا القتل والاعتداء على النفس البشرية، التي كرمها الله على سائر مخلوقاته. على من جعل الله الملائكة بقداستهم وطهرهم تسجد له، على من كان هدم الكعبة أهون عند الله من إراقة دمه، على من نفخ الله فيها من روحه القدسية تجري في عروقه وشرايينه "الإنسان". فنحن ضد الإرهاب وضد أي اعتداء على أي نفس كرمها الله وهو بها رحمن رحيم، وهو بها أرحم الراحمين. وهذا ما يرفضه أي دين وتمقته أي ملة. ولكن...

ما الذي يحدث للعالم، هل أصابه خلل عقلي؟ هل أصابته لوثة عُصاب أو مسحة ذُهان؟. فماذا يتقلب في ثنيات عقله المظلمة؟ كهوف ومنحنيات، دهاليز لا يفك شفرة كنهها سوى يوم 11 يناير!. والذي اجتمع فيه العالم أوروبا والأميركتان وأفريقيا وشرق آسيا والعرب والفرنسيون يهللون كلنا إيبدو!

شيء رائع أن يجتمع العالم من أجل الروح الإنسانية ونبذ الإرهاب، ووقف طلقات الرصاص، واستنكارا لإراقة أي قطرة من الدماء الإنسانية، أيا كان جنسها، أو عرقها، أو لغتها، أو زيها، أو دينها. ولكنه ليس بجميل على الإطلاق، أن نرى الدماء العربية تراق أنهارا تسيل على الأرصفة، في فلسطين وفي العراق وفي ليبيا وفي اليمن وفي مصر وفي الأردن وفي السودان والصومال وسورية وفي الخليج وفي كل بقعة نبتت على صخرة الضاد.

وبرغم هذا الأسى المعتصر للقلوب من قتل ودم وهلع وخوف واستقطاب العداء للإسلام، وكل شيء مؤلم، إلا أن 11 يناير حلل، وفسر، وفك شِفرة مبهمة لم نكن نعرف طرف خيوطها من أين تبدأ وإلى أين تنتهي! يوم يُظهر لنا حجمنا الطبيعي في قلوب وعقول العالم الداعي للإنسانية وحقوق الإنسان والسلام والمحبة، بل ولجميع حقوق الحيوان، فكما يقول الشاعر البدوي الذي ترك لنا نبراسا لمفهوم التعامل والمعاملة فيقول:

"أنا أحب الهزايع كل يوم

تبين لي صديقي من عدوي!".

لسنا في حالة عداء مع أي أحد درج على وجه البسيطة، ولكنهم يستدرون العداء في هفوات لم يحسبوا حسابها، وربما حسبوها، وربما لا يهم!.

نحن لا نؤمن بالعنصرية ولا بالعرقية ولا بالإثنية وملحقاتها، ولكننا نؤمن ونكتب ونتعلم ونشقى ونسعد بحق الإنسان الحر الطاهر النبيل الأبي المسالم والداعي إلى السلام. فلماذا الكيل بمكيالين، وأنتم مؤسسو فكرة العولمة والإنسان الأوحد في عالم واحد بلا حدود أو جنسيات وبدون ألوان ولا (شخابيط)! ألستم أنتم من نشر مؤسسات حقوقية تجول في بقاع الأرض، تبطن أكثر مما تظهر، بحجة الإنسان والإنسانية!

جميل كل ذلك ومستساغ ورحبنا به، ولكن أليست المجازر التي تحدث في ربوعنا إرهابا؟!. ماذا عن مجزرة بوكوحرام التي قتل فيها ألفا شخص في 15 قرية يوم 3 يناير 2015. يعني نفس التوقيت تقريبا؟ لقد ماتوا حرقا وغرقا وتشردا في نيجيريا! وفي نفس التوقيت الذي حدث في تشارلي. هل أحد انتبه لها؟ أبدا. هل أحد تجمع من أجلها؟ أبدا. هل أحد قال لا بد أن نحارب الإرهاب؟ أبدا. هل أحد بسط السجادة الحمراء لتجوب عليها أقدام عظماء العالم وساسته ومفكريه؟ أبدا. فقط وفقط وفي نفس التوقيت هذا من أجل إيبدو!.

في نفس التوقيت وفي اليمن قتل 40 شخصا في صنعاء! وفي هجوم لإسرائيل على غزة قتل 17 شخصا، وفي سورية تجمد الإنسان بكل أطيافه من طفل وعجوز وامرأة من الثلج، عدا من قتل عمدا! كل ذلك في التوقيت ذاته والذي حزنا من أجله كحزننا على باقي أبناء البشرية في أرضنا الدامية.

حيرتَنا أيها العالم! هل أنت تريد سلاما، ومحبة، وحرية، وأنسنة، كما ملأت به صفحات طمست بها تفكيرنا؟!

لماذا أيها العالم الانتقائية في القيم والمبادئ؟ وهل تعود النازية من جديد أيها العالم؟ هل يعود نقاء الدم الأزرق والأبيض والملون بكل ألوان الطيف؟

أفق أيها العالم من غفوتك، أفق من رعونتك، أفق من سبات النشوة واللذة، فأمامك إنسان يحيا من أجل الإنسان والإنسانية ولا يعرف الغل الذي أبداه إيبدو! أمامك أيها العالم إنسان هرع من كل بقاع الأرض، يعتصر ألما لموت أحد أبنائك ويشاركك ألمك، وأنت تغمض عينا وتفتح أخرى، وتتشدق بكلمات فهمها هذا الإنسان الحاذق في يوم أتاك يعتصر ألما ويجر أطراف ثيابه على سجادتك الحمراء تعاطفا وحزنا على من طالته يد الغدر، وأنت تصم الأذن والعين والقلب والفؤاد وحتى مسام جلدك عن مارد ينهش في لحمه اسمه الإرهاب!

من الذي يستدر الغضب ويستفز الشعوب؟ فإيبدو تطبع اليوم 6 ملايين نسخة حتى بلغ ثمن النسخة 600 دولار، بصور - على غلافها - تسيء إلى سيد الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقد رد شيخ الأزهر على هذا بقوله: الفكر لا يواجه بالرصاص، إنما الفكر يواجه بالفكر! ونحن نؤمن بهذا. فحين أتى أبرهة إلى مكة واحتجز أغنام عبدالمطلب، فذهب ليطلبها منه، فقال أبرهة ظننتك جئت من أجل البيت، فأجابه: للبيت رب يحميه. فلا يواجه الفكر إلا بالفكر، أما محمد سيد الخلق فله رب يدافع عنه دفاع المحب عن الحبيب.