يستحيل أن يكون اسم العاصفة التي تضرب حاليا المنطقة العربية "هدى" أو "زينة"، ولو كانت كذلك لما توحشت.
لست مع "النسوية" بمعناها العنصري ضد الرجل كي أرى الرجال وحوشا ضارية والنساء كائنات شفيفة بأجنحة من براءة، ولا موقف شخصيا لدي من الاسمين: موقفي يرسمه، فقط، إيماني بالأمومة.
كنت وما زلت مغرمة بمتابعة الأعمال الوثائقية التي ترصد عالم الحيوان، عالما يفترض أنه متوحش وقائم على غريزتي الجوع والبقاء، دون قوانين حماية حقوق "إنسان" أو جمعيات تدافع عن الطفولة، ودون أدبيات دونكيشوتية في الحق والفضيلة والعدالة.
آخر فيلم رأيته يصور لبوة تحنو على غزال رضيع، تتبناه، تداعبه، تنظفه، وتحميه، بدل أن تأكله، وفق قوانين الطبيعة. ولعل الفيلم لا يرمز إلى غرابة عالم الحيوان بقدر ما يسلط الضوء على شيفرة "الأمومة"، المفتاح الوحيد الذي يحيل إلى اللامعقول في إطاره العلمي هذا، ففيما كانت الكاميرا البشرية تنتظر انغراز الأنياب في اللحم الهش، صفعت الطبيعة وجهها الشرير عطفا، وتحولت إلى أم، وما أسطورة طرزان الشهيرة للمؤلف الأميركي "ادجار رايس" سوى انحياز لهذه الفكرة: الأمومة تتجاوز الإنسان والقوانين العلمية المألوفة كما يتجاوز الإنسان الطبيعة.
الأمومة ليست رحما يحمل فقط، بل أصابع تنضح بحليب أبيض كالصباح، رائق كالورد، حان كالدفء، وسرمدي كالأسطورة، وليس منصفا على الإطلاق التنكر لها، تجاهلها، التخلي عنها، أو تجريحها.
عندما كنا صغارا كنا نقول "القطة إذا جاعت تأكل أطفالها"، إلا أن إناث القطط لها مآثر في حب أبنائها، ولا أعلم إن كانت في حالات خاصة تأكلهم جوعا أم إنقاذا لهم من هذا العالم الجائر.
قبل أيام تداولت وسائل الإعلام العربية ومواقع التواصل خبرا عن موت الطفلة السورية "هبة" ذات العشرة أعوام من البرد في مخيم عرسال اللبناني إثر العاصفة "هدى" أو "زينة"، ثم ثلاثة سوريين آخرين "بينهم طفلان"، وحتى لحظة كتابة هذه الكلمات اكتفت العاصفة باقتلاع الخيام في مخيم أطمة التركي وأيضا عرسال، أما عدد الأموات فمرشح للارتفاع.
وعلى سيرة السقوف التي كثر الحديث عنها في الفترة الأخيرة في الأوساط السورية "سقف الوطن"، "سقف الصحافة"، سقف "القضاء"، سقف "الحريات"، سقف الأقبية، وغيرها من الأسقف، وسواء كان موت هبة متخيلا أو حقيقيا كما ألمح البعض، هبة والطفلان الآخران ومن سبقهم من أطفال ممن قضوا حقا من البرد في مخيمات اللجوء العام الفائت، تماما كبائعة الكبريت في القصة، لم يرغبوا إلا بسقف، سقف واطئ وآمن يقيهم ظل الثلج وبرد القلوب المتنمرة بعد أن هربوا من نار البراميل والكيماوي.
مجددا يتفوق السوريون في اختبار كل أنواع الموت، حتى تلك العصية على أعتى أفلام الرعب والخيال العلمي، مجددا يتفوقون في الموت، ولكن بلا دموع هذه المرة، فالحرارة المنخفضة حتى عشر درجات تحت الصفر جمدت الهواء والعروق والدموع، وأيضا أدنى سقف للإنسانية.
هل ماتت "هبة"؟
نعم ماتت، على الأقل رمزيا، وماتت ضمائرنا، بقي أن موت "العاصفة المتهمة بالأنوثة" انتحارا، خجلا من فعلتها الشنيعة، بعد أن أكلت أولادها جوعا، أو قهرا لإنقاذهم من قسوة البشر.. لا يا "هدى" لا يا "زينة".
أما حاملات هذا الاسم من قارئات الجريدة ومن المواطنات العربيات، فأعتذر منكن وأدعوكن جميعا إلى إطلاق حملة تنديدية ورفع دعوى ضد من تجرأ وأطلق أسماء أنثوية تليق فقط بكن كأمهات على العواصف بتهمة ازدراء الأمومة والمرأة، والأصدقاء الرجال أيضا بإمكانكم رفع دعوى استباقية كي لا تحمل العواصف القادمة أسماءكن.... من يدري؟
قد تتجرأ امرأة ما على الافتراء عليكم والقول: جاء الإعصار "بشار".