يعاني الالتزام الديني من تطرف ذاتي نابع من نفس الشخص، بسبب وجود عدة هواجس تبعث على التساؤل دائما عن صحة هذا الالتزام، وتعرقل ترشيده في حال أن زاد عن حده، كهاجس حب الدنيا وهاجس التأثير الشيطاني، وهاجس الابتداع وهاجس العلمنة أو التحريف أو التمييع وهاجس ضعف الإيمان، ولعل تغير الأحكام والتراجع عن الأخطاء في الأحكام التي اعتدنا عليها من أكثر المجالات التي تتأثر بتلك الهواجس.

فإذا مارس شخص عملا دينيا أو أراد التغيير انتابته تلك الوساوس الآتية من تلك الهواجس أو وجهها له أحدهم، فيبالغ في التحرز أو يتراجع عن التغيير موهما نفسه أن هذا من قوة الإيمان أو الهداية مع أنه كالاستهتار، فالوسطية هي المطلوبة ولكن لا يمكن أن نصل إلى هذه الوسطية مع كثرة تلك المصادر للتوجس التي ذكرتها، والتي أدت إلى كثرة السؤال عن جزئيات بسيطة لا حاجة للسؤال عنها، وتسببت بوجود الوساوس في العبادات كوسواس اكتمال الوضوء، أو قبول الصلاة أو قبول الصيام أو السؤال عن علامات قبول العبادة، أو الشك في كونها رياء من عدمه، وكل هذا تكلف وليس من الهداية أو الخوف من الله كما يتصور البعض، بل إن هذا من سوء الظن بالله لأنه يجعل الله يحاسب على جزئيات صغيرة وهذا يتعارض مع رحمته، ولا يتعارض في نفس الوقت مع قوله تعالى: "ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره" لأن تلك الجزئيات ليست من الشر.

إن ما تسبب في كل هذه الهواجس هو إسقاط نصوص نبوية في غير معناها الحقيقي من مثل: "أول ما يسأل عنه العبد الصلاة فإن صلحت صلح عمله كله"، و"رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش"، و"ويل للأعقاب من النار"، فهذه النصوص تساق بشكل تحذيري وكأنها إنذارات ولا تساق وفق ما وضعت له، وأنها لأشخاص يتلاعبون عمدا بهذه العبادات أو لمنافقين يستغلونها، فيجب ألا تساق في مجتمع مسلم نعلم أن الناس به لا يتعمدون الإهمال أو الخطأ، ولا أقول توضيح معناها بل لا تساق أصلا، لأن من ذكرت بحقهم ليسوا موجودين، ومن أراد التنبيه على خلل في الصلاة أو الصوم فلينبه إليه مباشرة من غير سوق لهذه النصوص، إضافة إلى وجود بعض الكتب القديمة التي تحمل عناوين تحذيرية مثل "تلبيس إبليس"، و"إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان"، فهي وإن كانت ذات مضمون جيد إلا أن مضمونها ليس من التلبيس ولا المصائد، بل قد يكون من التلبيس الكتاب نفسه أو الوصف بهذا الوصف لبث الوساوس عند الناس، فمحتواها إما اجتهادات لعلماء أو أحوال بشرية، بالإضافة إلى مقولات تراثية من مثل "لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى عظمة من عصيت، إنكم تقترفون آثاما ترونها أدق من الشعر كنا نعدها من الموبقات".. وعبارات مشتهرة ما زلنا نراها على أبواب الجوامع يسرد فيها ما يقارب 20 أثرا للمعصية على الشخص وأغلبها لا دليل عليه، فلو قارنا هذه المقولات بقوله تعالى: "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم". وقوله تعالى: "الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم"، لوجدنا أنها لا يمكن أن تنسجم مع بعضها، فكيف تكون بهذه المكانة ويغفرها الله في نفس الوقت.. فهذه المقولات مع سوء فهم النصوص وسوقها في كل محفل هي ما خلقت هذه "الفوبيا" الموجودة الآن.