يدهشنا علم الفلسفة المنطقي بما يتطرق إليه من مواضيع عميقة الأغوار تجعلنا نتلمس حقيقة ما حولنا، ونشك، ونجادل، ونفكر، ونحلل، ونختبر مصداقية المسلمات من عدمها، وبالتالي فإنا نتقبل الرأي والرأي الآخر، في محاولة منا للوصول إلى لب الحقيقة إن استطعنا.
ودليلنا العملي اليوم هو ما يقوم به علماء الفلسفة من (غمس قلم إلى منتصفه في كأس من الماء)، لنرى منظر القلم بأم أعيننا وهو مكسور!. ثم يأتي معه السؤال المحير: ما هو الواقع؟ وما هي الحقيقة؟
فالواقع: أننا نرى القلم مكسورا في منطقة اتصال الماء بالهواء (نحدده بحواسنا المجردة).
والحقيقة: أن القلم سليم من الكسر عندما ننتزعه من مكانه! (نحددها بالبحث والتقصي والاختبار بكل وسيلة متاحة).
إذن فليس كل واقع حقيقة!. والحقيقة دوما لها عدة وجوه، قد تظهر لنا، وقد يكون هنالك ما يعيق ظهورها. والواقع لا يُلزم بثبوته، رغم واقعيته، وقد يوجد في المنطق والعقل والبحث العلمي ما ينفيه.
كما أن زاوية الرؤية ومجالها ومكانها وزمانها، ومحيطها ومعطياتها الأخرى قد تؤثر كثيرا فيما نحن بصدد التفكر في مصداقيته ورصده.
ولو وعينا ذلك لعرفنا أن (الرأي الأوحد) دوما يكون مبتورا، وأنه يأتي ضعيف الحجة، متصلبا متعجرفا غير منطقي، ولا يحترم قدرة الله ـ سبحانه وتعالى ـ في تنوع وتجدد قوانين الطبيعة من حولنا. وأنه لا يؤمن بأن الواقع الذي نعيشه يظل دوما قابلا للتغير طالما وجدنا بعقولنا السبل الكفيلة لسبر أغواره، واختباره، ودراسة كنه محيطه، وتأثيرات الطبيعة عليه بزمانها ومكانها وبسائر خصائصها، وبتدخل يد الإنسان بحسن النوايا أو سوئها. لنصل إلى مسببات ظهوره بهذه المظاهر الخادعة لحواسنا.
منهج التفكير والبحث العلمي دوما متغير متطور. والنظريات يأتي عليها الزمان وتصبح قديمة أو خاطئة مهما عشنا ضمن واقعيتها المؤقتة ردحا من الزمن.
فكر (نيوتن) في كنه واتجاهات القوى والزمن، التي عاشت البشرية عليه قرونا عديدة، أتى بعده فكر (أينشتاين) ليجعله فكرا ناقصا وغير منطقي. وليبدل واقع ماديته في فهم قوى الطبيعة إلى حقيقة (النسبية) بحساب معطيات الحركة تبعا للأبعاد الأربعة. ولا غضاضة في ذلك، ولا ينقص هذا من قدر صاحب المبادرة الأولى، ولا ينفي تميز الطرح العلمي السابق، حتى وإن كان ناقصا. فقد حمل فكره نورا للبشرية عاشت عليه قرونا من الزمن. ولكن بوجود الفكر الأفضل والأمثل، ينتفي الفكر الناقص. ألسنا نقول إن المجتهد له أجر واحد حتى وإن هو أخطأ؟
وحقيقة أن ما دعاني لهذا الكلام هو ما أراه من تناقضات تنمو وتنتشر وسط مجتمعاتنا. تناقضات نظرية بفكر لا يؤمن بغيره. ونفاق يخلط الألوان في أعيننا. وكذب لم تعد ترى في لجته المتعالية الأمواج إلا الظلمة.
نحن نعيش ونزاول الكره للغير بلا حدود. كره لا يراد منه إلا التقوقع في دنيا الوحدة. والتظاهر بحرية لا نلمسها في حقيقة الأمر، وكرامة مريضة، وخصوصية خانقة. وجنوح عن العلم والاكتشافات والاختبارات العلمية يجعلنا شعوب ورق ولسان، يغلب فينا الحس المجرد على البحث العلمي.
دعونا ننظر بوعي إلى كل الزوايا قبل أن نحكم على أمر غامض بين أيدينا. دعونا نشجع مبدأ البحث العلمي بيننا ونعرف أن الحقيقة الوحيدة هي وجه الله العلي الأعظم. دعونا نوطن أنفسنا ونربي أبناءنا وشبابنا على تقبل الجديد وفهمه واختباره والاستفادة منه، والتعايش مع العلوم والفنون والآداب وصهرها في بوتقة فكرية واحدة. دعونا نؤصل منهج البرهان والإقناع والحجاج العقلاني وتطوير مناهج التعليم والتبليغ، التي تتمثل في أسلوب التهيئة والحوار والأسطورة والشعر علاوة على مناهج الاستكشاف، التي تستند إلى تشغيل الحدس واللجوء إلى التمثيل والاستعانة بالأمثلة والاستقراء والاستنباط. دعونا نؤيد الصدق والأمانة وننمها وألا نعيش في كهف من الزيف.
دعونا نفتح قلوبنا لشمس الحب غير المشروط، وننشر المحبة على أهلينا الأقربين قبل أن نوزع ما يفيض منها على الأغراب من كل صوب. دعونا نحب ثرى بلداننا ونقف في وجه من يسرق ويبدد معطياتها بفكره المريض، ونفتد ثراها لأنه واقعنا المطابق لحقيقتنا، التي لا تتبدل. دعونا نفخر بحقائق تاريخنا، وننبذ زيفه وخرافاته، ونبحث عن أصدق الحقائق فيه مهما كانت لا ترضينا. دعونا ننبذ الحسد والكره والحقد وندع الخلق للخالق.
دعونا نعط الضعيف حقوقه قبل القوي، والأقلية قبل الأكثرية. دعونا نهب نساءنا كرامتهن قبل الرجال، ونهب أطفالنا رغد مستقبلهم قبل الكبار. دعونا في مجتمعاتنا نكن واقعا جميلا يطابق حقيقة أجمل.