تم استخدام الإرهاب في التاريخ المعاصر كثيرا، من أجل تنفيذ أجندات سياسية. وذلك أمر بدهي، فلكل عمل من هذا النوع مبرراته، وإلا صار فعلا عدميا. هذه المبررات، لا تنطلق من دواع أيديولوجية فحسب، بل لها دوافع أخرى، ربما لا تكون واضحة حتى بالنسبة لمن ينفذونها. فالحرب العالمية التي يشنها الإرهاب، والتي تقدر كلفها بمليارات الدولارات، لا يقف خلفها المتشددون الدينيون فحسب، بل قوى دولية وإقليمية، توفر الدعم المادي واللوجستي، من تسهيل مرور وتقديم جوازات سفر، وتهريب أسلحة وما إلى ذلك من مستلزمات لنجاح العمليات الإرهابية. وهذه القوى لا تقدم هذا الدعم عن حسن نية، بل لأن ذلك يخدم أجنداتها السياسية.

ليس ذلك فحسب، بل ربما تحدث عملية إرهابية في بلد ما، وتجد فيها الدولة ما يتيح التعامل مع ملفات مؤجلة. فتستثمر الحدث لوضع هذه الملفات قيد التنفيذ. والأمثلة في هذه السياقات كثيرة. لعل الأبرز منها هو الغزو الصهيوني لبيروت عام 1982، حيث كانت ذريعة الغزو اغتيال قنصل إسرائيلي في بريطانيا. ورغم أن الجهة التي نفذت العملية ليست لها علاقة بمنظمة التحرير الفلسطينية، ولا بفتح، فإن حكومة مناحيم بيجن استثمرت الحادثة لتنفيذ عملية الغزو.

في 11 سبتمبر 2001 هاجم إرهابيو القاعدة برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، ومبنى البنتاجون في واشنطن وذهب ضحية هذه الاعتداءات أكثر من ألفي قتيل. اغتنم الرئيس بوش الابن هذه الحادثة، ليعلن حربا عالمية على الإرهاب، بدأت بغزو أفغانستان التي كانت تحكم من قبل طالبان. وذلك أمر مفهوم نظرا لعلاقتها بتنظيم القاعدة المتهم بحوادث 11 سبتمبر، وبسلسلة طويلة أخرى، من عمليات نفذت بحق واشنطن وحلفائها. لكن ما لم يكن مفهوما هو احتلال العراق، الذي لم تربطه علاقة بتنظيم القاعدة.

تقودنا هذه المقدمة، إلى ما يجري حاليا في مسرح الأحداث عربيا ودوليا. فقد تصاعدت عمليات الإرهاب في الأيام الأخيرة، بالمنطقة والعالم بشكل غير مسبوق، شملت العراق وسورية ومصر وليبيا واليمن وتونس، وطرق الإرهاب أبواب حدودنا الشمالية في عرعر. تصاعدت في نيجيريا العمليات الإرهابية بـ"بوكوحرام"، وفي تركيا عملية إرهابية نفذتها سيدة تركية.

وكان الأبرز في الأسبوع الأخير، هو هجمات عدة في العاصمة الفرنسية باريس، أبرزها الهجوم على صحيفة شارلي بيدو الكاريكاتورية، التي نشرت في السابق رسوما مسيئة للرسول الأعظم محمد - عليه الصلاة والسلام -. وذهب ضحيتها 12 شخصا، وعدد أكبر من الجرحى. وليس صدفة أن تعلن غالبية المنظمات الإرهابية، بما فيها تنظيم طالبان بباكستان، وبوكوحرام في نيجيريا، مبايعتها لتنظيم "داعش"، بما يوحي بوجود نية لإغلاق ملف "القاعدة"، واعتبار داعش حجر الزاوية في التخطيط والتوجيه لعمليات الإرهاب على صعيد العالم بأسره.

في الحديث عن الإرهاب والسياسة، نختار مثلا واحدا، هو الأحدث بين العمليات الإرهابية لتسليط الضوء عليه، هو الهجوم الإرهابي على الصحيفة الفرنسية شارلي بيدو. عدد القتلى، وفق الإحصاء الرسمي الفرنسي، لم يتجاوز 12 شخصا، ومع ذلك جرى تضخيم الحدث بشكل مكثف من قبل وسائل الإعلام الفرنسية وتوصيفه بأنه 11 سبتمبر فرنسي، في إشارة واضحة إلى أحداث 11 سبتمبر التي هزت أميركا 2001.

المقاربة عنها ليست فقط غير دقيقة، ولكنها مفرطة في كاريكاتوريتها. فما حدث في فرنسا من أعمال إرهابية، هي بالتأكيد أعمال إجرامية مدانة بكل المقاييس. ولكنها ليست بالضخامة التي صورها الإعلام الفرنسي، وتحدث يوميا للأسف في العالم المقهور. يحدث مثلها يوميا في العراق وسورية وليبيا واليمن وأفغانستان وباكستان ونيجيريا، وحتى في مصر وتونس. وحدث مثيل لها في بريطانيا وإندونيسيا وفي فرنسا نفسها من قبل. فما الجديد في الأمر، الذي دفع بالحكومة الفرنسية إلى سن قوانين متشددة، تحد من حرية الأفراد وتعيق تحركهم، وتحجب عنهم حقوقا في إبداء الرأي كفلها الدستور الفرنسي، قوانين متشددة شبيهة بتلك التي سنتها الحكومة الأميركية بعد 11 سبتمبر.

ليس ذلك فحسب، بل إن شكل التظاهرة السياسية التي جرت في فرنسا، بدعوة ورعاية مباشرة من الرئيس الفرنسي، هو أمر غير مألوف في تاريخ البلاد. فقد شهدت العاصمة باريس، تظاهرة سياسية قادها الرئيس نفسه، وشارك فيها 50 زعيما من قادة العالم، عدا الفعاليات السياسية والاجتماعية، وطواقم الإعلام الفرنسية. وتزامنت مع تصعيد عدائي إعلامي بحق الجالية العربية والإسلامية، التي يبلغ تعدادها ما يقرب من الستة ملايين نسمة.

هل الأمر فعلا هو مجرد تحشيد شعبي ودولي ضد الإرهاب، أم أن لذلك أهدافا سياسية أخرى؟ هناك عدة فرضيات، لا نجزم بصحة أي منها ولكننا نذكرها هنا، لأن وسائل إعلام فرنسية أشارت إليها. الأبرز بينها ثلاث فرضيات.

الفرضية الأولى أن هناك نية فرنسية إرسال قوات إلى ليبيا، بعد غرق الأخيرة في بحر من الفوضى. وأن حكومة أولاند تتوقع معارضة داخلية شديدة لهذه الخطوة. إن التظاهرة الأخيرة ضد الإرهاب تهيئ مناخا مناسبا لإرسال قوات فرنسية إلى ليبيا، وتضعف موقف المعارضة تجاه هذه الخطوة.

الفرضية الثانية، أن الموساد الإسرائيلي هو من وقف خلف العمليات الإرهابية الأخيرة. ويستدل على ذلك بالموقف الفرنسي الأخير الذي اعترفت فيه فرنسا بالدولة الفلسطينية، وبـ"حماس" في مجلس الأمن الدولي، هذا الموقف المساند للقضية الفلسطينية، تبدى في تفردها بين الدول الغربية دائمة العضوية بمجلس الأمن بالتصويت على القرار. ووفقا لهذه الفرضية تأتي العمليات الإرهابية الأخيرة بهدف تسعير العداء للعرب وتقويض التأييد للفلسطينيين في الأوساط الفرنسية.

الفرضية الثالثة، أن هناك رغبة فرنسية في سن قوانين هجرة جديدة، تحد من تدفق الأجانب إلى فرنسا. وأن هذه الرغبة تصطدم بمعارضة شديدة من منظمات حقوق الإنسان. إن البيئة الاجتماعية التي تكونت مؤخرا، بعد العمليات الإرهابية، وما صحبها من مظاهر غضب وتظاهرات سياسية، تخلق أجواء مناسبة لسن القوانين الجديدة.

لسنا هنا في وارد تغليب أي من هذه الفرضيات ولا تأكيد صحتها مجتمعة أو فرادى، بل التأكيد على استحالة الفصل بين الإرهاب والسياسة، وهي وحدة أكدتها التجارب التاريخية المعاصرة.