-1-
لا شك بأن كرسي الأمير خالد الفيصل، لتأصيل منهاج الاعتدال السعودي في جامعة الملك عبدالعزيز، في جدة، خطوة حضارية مهمة بامتياز، كما أشارت "الوطن" في افتتاحيتها (بالاعتدال تبنى الأوطان، 25 /9 /2010). وهي خطوة أولى لا بُدَّ لها من خطوات مماثلة من قبل الآخرين، الحريصين على سلامة هذا الوطن ومستقبله. ونتمنى أن تتكرر مثل هذه الكراسي العلمية الجادة في كافة الجامعات السعودية على مختلف تخصصاتها، وخاصة الجامعات الدينية المتخصصة، لكي يتأصل منهاج الاعتدال في عقول الطلبة وسلوكياتهم، بعد تخرجهم وعملهم في الحياة اليومية. ولكي يكون هذا هو المنهاج في الاعتدال الفكري والسلوكي. كما سيكون هذا المنهاج - لو تم تطبيقه بعناية من قبل المدرسين والأساتذة في كافة الجامعات السعودية - الدرع الفكري والسياسي والسلوكي الواقي للخريجين من رياح التعصب والتطرف والتشدد الديني، والدعوة إلى استخدام هذا كله من أجل نشر الإرهاب والنحر والانتحار المجاني.
-2-
فعندما ننشر ثقافة الاعتدال وفكر الاعتدال، ونؤصل هذا كله تأصيلاً أكاديمياً قويماً، فإننا بذلك نرسِّخ قيام مجتمع الحوار. ونستبدل السيوف بالأقلام، وتفجيرات الأنفس بتفجير طاقات الحياة، كما سبق أن وجه الأمير خالد الفيصل في عسير عام 2006 العاملين في التربية والتعليم. وباعتقادي، أن لا طريق لترسيخ مجتمع الجدل والحوار الهادئ إلا بترسيخ وتأصيل فكر وسلوك الاعتدال، وعدم عزل فئات التشدد والتطرف الديني، ولكن محاورتهم وضمهم إلى مسيرة منهاج الاعتدال. فالعزل - كما شاهدنا في أحداث وفترات كثيرة في العالم العربي، وأبرزها مصر الناصرية، التي عزلت من سُمّوا "أعداء الثورة" - من شأنه أن يأتي بنتائج عكسية، وسلبية وخيمة. والأمثل أن يتم الحوار الدائم مع هذه الفئات، إلى أن تلين قناتهم، ويُضموا إلى السلوك في طريق الاعتدال، وينهجوا نهج الاعتدال. فمنهاج الاعتدال يجب أن لا يستثني أحداً نتيجة لعقيدة ما، أو طائفة ما، أو لون ما، أو ماضٍ ما.
-3-
وإذا نجحنا في تأصيل منهاج الاعتدال، ليس عبر جامعة أو جامعتين، ولكن عبر كافة الجامعات، وكذلك من خلال تكليف المختصين بتأليف كتب دراسية، حول هذا الموضوع، وتدريسها في المراحل الإعدادية والثانوية لإعداد الطلبة، لمزيد من فكر الاعتدال في الجامعات، واعتبار هذه الحملة حملة وطنية واسعة وشاملة وليست قاصرة على جامعة أو جامعتين أو ثلاثة، فنكون بذلك قد قطعنا شوطاً كبيراً في إقامة مجتمع الحوار، الذي تدعمه وتدفعه إلى الأمام الآن مؤتمرات الحوار الوطني التي بدأت عام 2003 في الرياض، وانتشرت في مدن المملكة الرئيسية، وما زالت مستمرة.
-4-
تأصيل منهاج الاعتدال، سيعمل على إقامة مجتمع الحوار، ومجتمع الحوار سيقيم موطن المعرفة التي هي الجماعة. فلا حقيقة يمكن أن تتحصل إلا بالجدل والحوار والنقاش. وكان الإغريق في الماضي، قد أكدوا على ضرورة الحوار والجدل، لكي تولد الحقيقة من الصوت الجماعي. فالرأي الساكن في الصدور الفردية لا ينتقل من ظلام الكهوف إلى نور الإنترنت، إلا بالجماعة المتحاورة والمتجادلة. والفكرة التي تدور في عقول الأفراد، لا تتحول إلى واقع ملفوظ، وسلوك متعايش يومياً، إلا إذا اكتست بلغة الجماعة. وقد قلنا في مقال سابق، هنا في "الوطن"، من أن الرأي لا يُعرف إلا بالرأي الآخر. ويظل الرأي في صدور الأفراد ساكناً، ما لم تُتح له فرصة الظهور، نتيجة الاحتكاك بالرأي الآخر. ومن هذا الاحتكاك، تخرج شرارة الحقيقة التي يَقدحُ شررها حجرا الرأي والرأي الآخر. وبدون هذين الحجرين (الرأي والرأي الآخر) لا يخرج شررُ الحقيقة، ولا يظهر نور المعرفة.
-5-
إن تأصيل منهاج الاعتدال، وتأصيل منهاج الحوار الوطني، وسيلتان حضاريتان للوصول إلى مجتمع العقل و"وطن العقل". فالمدينة الإغريقية (أثينا) التي كانت تُوصف بأنها "مدينة العقل"، بُنيت بحيث يُمثل كل صوت ناطقه، ولا ينوب أحد عن أحد. فكانت مدينة الناطقين، المتحاورين المتخاطبين، قبل أن تكون مدينة الحاكمين والمحكومين، كما يصفها المفكر السوري/الفرنسي مُطاع صفدي في كتابه المهم (نظرية القطيعة الكارثية). ويضيف صفدي بقوله: "إن إبداء الرأي، وسماع الآخرين له، ومناقشته، يتطلب أن يكون المجتمع ضاجاً بالكلام، والأخذ والرد. فالمجتمع المتكلم يمارس الديموقراطية علناً. على عكس المجتمع المقموع، الذي يقبع في الصمت".
-6-
لم يعد المجتمع السعودي الآن "نبت الصمت" كما قال عنوان كتابي "نبت الصمت" في الثمانينات من القرن الماضي، وفي دراستي لكوكبة من شعراء الحداثة السعودية (فوزية أبو خالد، محمد العلي، علي الدميني، وغيرهم). أصبح المجتمع السعودي اليوم يضجُّ بالكلام والأخذ والرد كما عبّر مُطاع صفدي قبل قليل. وأصبح مجتمعاً متكلماً يمارس الديموقراطية علناً، دون قرارات بذلك، أو بيانات أو مسيرات أو نحو ذلك من مظاهر الديموقراطية "الزائفة"، التي تنتشر في بعض الشوارع العربية، والتي تسمعنا ضجيجاً، ولا تسمعنا معرفة، وتطلق الشعارات الفارغة من مفيد العبارات.
ولعل هذا الكم الكبير من الكتّاب السعوديين، ممن يكتب في الصحف اليومية من شتى الأطياف، وهذا للأخذ والرد الذي يجري على صفحات الصحف كل يوم وحيال أية قضية، خير دليل على مجتمع نبذ الصمت، وأخذ يتكلم، وسوف يتكلم بشكل أوسع وبلسان أفصح، فيما لو استمرت الأجواء السائدة الآن إلى السنوات القادمة. فالأشجار لا تعلو، ولا تبسُق في يوم وليلة!
-7-
إن منهاج الاعتدال ليس منهاجاً يخص الإسلام وحده. كما أن الحوار ومنهاج الديموقراطية ليسا من ميراث وحضارة الغرب وحده. فالاعتدال والحوار منهاجان من صنع الإنسان منذ فجر التاريخ، وهما تراثان إنسانيان، أخذ بهما الإنسان منذ القدم، لكي ينيرا ما أظلم من طريقه، وما أعتم من فكره، وما ضاع من قيمه. ونحن اليوم نرجع إلى هذا التراث، لكي نستعين به على التنوير، وإرساء "مدينة العقل" في هذا المجتمع الجديد.