لا أدري لماذا كان لدي تصور وإيحاء بأن سقوط الثلوج في الشتاء إحدى علامات التمدن ودلالة متقدمة على أن الدولة التي "يطقسها" الجليد هي دولة متحضرة.
ربما كان سبب هذا الوهم هو أننا نسافر إلى هذه البلاد المتحضرة حقيقة بغرض السياحة أو العلاج فنربط هذه بتلك.
أو لربما لأن هذه الدول المتقدمة جعلت من فصل الجليد فرصة سياحية فبثت في هذه الأجواء الميتة حياة، وأقامت مسابقات وبطولات التزلج التي صار لها أربابها وأبطالها وشركاتها التسويقية، وبالطبع نهضت على جانب تلك الفعاليات النزل والأوتيلات وهكذا صار "البرجوازيون" والميسورون من "ربعنا" وجماعتنا يرتادون هذه المنتجعات الشتوية ويتزلجون أو يتفرجون وكل هذا ألقى بظلاله على نفوسنا حتى صرنا نعرف "كورشوفيل" في فرنسا، و"سانت موريس" في سويسرا، و"سيلاروندا" في إيطاليا، وصرنا نشخص ونتزين بمعرفة مسارات جبال الألب وقمم الـ"مونت بلا" وغيرها.
لكن ما ينفي ارتباط طقس الثلج بالمدنية والتحضر هو أنه يسقط على مواقع عديدة في العالم المتخلف النامي أو النايم أو العالم الثالث، وهكذا فالثلج يغطي مساحات كبيرة في أفغانستان وباكستان وإيران، لكن هذه الدول لم تستثمر هذا الفصل لتسويق بلادها سياحياً، بل إن هذه الدول هي خارج قائمة الاستهداف السياحي في كل الفصول الصيفية والخريفية والشتائية، أما بالنسبة لنا هنا في المملكة فنحن حقيقة دولة متقدمة نسبياً ولدينا رغبة وتحفز شعبي للسياحة في كل عطلة متاحة، وصارت بعض المواقع في بلادنا في السنوات الأخيرة تتثلج ويصيبنا الجليد بقدر متنام سنة بعد أخرى إلى الحد الذي صار "جبل اللوز" علامة فارقة في هذا المجال، والأمر آخذ في الازدياد فقد تجاوز الأمر شمال بلادنا الذي عهدناه بارداً في الشتاء ووصل الثلج إلى منطقة الأحساء، وامتد إلى وسط نجد في الزلفي وغيرها بما يشير إلى أن القادم ربما "أثلج" وأبرد تبعاً لتحولات الطقس في العالم، وربما لو اقترحت أن تربط أطراف ومرتفعات جبل اللوز بعربات "التلفريك" التي تسمح للمتفرج بالتمتع ببياض الثلج لسخر مني القارئ الذي يرى أن مصايفنا الجميلة في الشريط الممتد من الطائف نزولاً حتى جازان مروراً بالباحة وبللسمر ورجال ألمع والنماص وأبها لم تجد البيئة التحتية السياحية المناسبة التي تجعل المواطن يتجه إليها عوضاً عن شد رحاله الدائم إلى المصايف الخارجية.
وكنت تحدثت مع أحدهم في موضوع استثمار موسم الجليد عندنا سياحياً فضحك ثم كركر ثم عبس في وجهي وبسر وقال لي بلهجة حازمة وحادة: الإرادة هي التي تصنع المستحيل وتجعل الصعب متيسراً.
وذكر أن الرغبة والعزيمة تتكيفان مع كل الظروف وتستثمران المتاح، ثم أشار علي بإصبعه الكبير انظر إلى دبي وكيف أحالت المدينة الجرداء إلى مدينة سياحية عصرية ترعى كل الفصول، وفيها ساحات التزلج على الجليد بل زادت على ذلك واستحدثت رياضة التزلج على الرمال، وجعلت من دبي منارة للسياحة ومقصداً للشرقيين والغربيين على حد سواء، وذلك كله فقط بسبب الحافز والرغبة والانعتاق من البيروقراطية.
وقد أيدت صاحبي في كلامه لكنه في الأخير طلب مني ألا أتبنى الدعوة إلى استثمار فصل الشتاء في جبل اللوز فلما أبديت دهشتي من تحبيطه وتثبيطه لي رد علي وهو يهوش على عيني بيده الكريمة: أخشى أن يخرج عليك أحد المتنطعين ويقول لك هل تريدنا أن نتزلج؟ ألا تعلم أن هذا الجليد الذي صار يفد إلى مناطقنا الشمالية إنما هو ضمن سلسلة الاستهداف والتغريب التي تحاول أن تقتحم "خصوصيتنا" وعند هذا الحد لم يكن أمامي إلا أن أكح وأعطس وأشتم الجليد الذي أصابني في "معطس".