على عكس القناعة السائدة أن الأبطال هم من يحرك المجتمعات ويدير عجلة التغيير فيها، يقودنا المبدع (يوسف إدريس) بقلمه الميكروسكوبي من خلال إحدى روائعه في القصة القصيرة (أنا سلطان قانون الوجود) إلى أن المجتمع هو الذي يخلق البطل! وأن البطولة ليست إلا نتاجا للعوامل الفكرية والاقتصادية والسياسية المؤثرة في تشكيل المجتمع والتي تلعب دورا بارزا في رسم ملامح البطولة وفي تأطير صورتها.

والقصة مستوحاة من واقعة حقيقية حدثت لبطل السيرك المصري (محمد الحلو) الذي افترسه أسد رباه وروضه؛ ففي لحظة مجنونة تتعرى فيها الحقائق ويتلاشى فيها الخيط الرفيع الفاصل بين القدرة على السيطرة على الحيوان وبين الخوف الساكن في قلب الإنسان؛ يكتشف الأسد أن مدربه يخافه، وتتسرب إليه تلك المشاعر المتناقضة التي يشعر بها صاحبه، فيهجم عليه ويفترسه على مرأى من الجماهير!

البطولة دون شك هي خروج على المألوف وكسر للصور النمطية وابتعاد عن مقاييس البشر العادية، وكلما صعب العمل الذي نشاهده، استطاع أن ينتزع إعجاب الناس. والبطل يحقق ذاته من خلال انتزاعه للحظات الدهشة التي يراها تبرق في عيون المشاهدين كما يصور لنا قلم يوسف إدريس الدقيق الوصف. ولكن ماذا لو تحولت البطولة إلى وسيلة للتسبب؟ هل من الممكن أن تحتفظ بقدرتها على الإبهار؟! وهل هناك مناخ معين قادر على إنجاب الأبطال وآخر عقيم لا يمكنه استيلاد الأبطال وإنجابهم؟! يصف لنا يوسف إدريس جمهور السيرك المثقل بهموم (أكل العيش) .. المثخن بالآمه وإحباطاته في أوائل السبعينات بعيد هزيمة 67 . ذلك الجمهور الذي ينوء بوجبة فطور رمضانية دسمة.. والأجساد المتكدسة المحشورة في ثياب تفتقر لأدنى إحساس بالذائقة الجمالية، والجو العام من الملل والرتابة الذي يلقي بظلاله على المسرح وجمهوره. ثم يسهب في وصف طاقم السيرك نفسه ببدلاته المهترئة المنزوعة الأزارير؛ وبطلاته السمينات بملابسهن المفتقة وألوانها الباهتة من تأثيرالقدم، والتقنيات والوسائل التي لم تعد تصلح للاستخدام العادي ناهيك عن المغامرة بممارسة ألعاب خطرة. فهل من الممكن أن يولد من رحم هذه المعطيات البائسة بطل يخلب لب جمهور محبط يائس كذلك الجمهور؟! وهل من الممكن أن تختل موازين نظرتنا للبطولة طبقا لظروف سياسية واجتماعية واقتصادية معينة؟! وهل تموت البطولة في مهدها عندما تتساوى الأشياء مع أضدادها وتتعادل مع نقائضها؟ وتتلاشى الفوارق ما بين الخير والشر.. الحق والباطل.. الجمال والقبح؟!

يقول إدريس: "إن البطل لا يولد وحده.. البطل يخلق.. ولا بد كي يوجد ويعيش أن يترعرع في ظل إحساس عام بضرورة البطولة، بروعة البطولة، بتفرد البطل. ولا يمكن لفكرة البطولة أن تترعرع في جو عام كهذا وحدها. البطولة قيمة، ولا بد أن توجد وسط محصول وافر من القيم. لا مجد للبطولة، بلا مجد للكرامة، بلا مجد للنبوغ، بلا مجد للشرف.. بلا مجد للعمل الصالح. وأيضا لا توجد البطولة، بلا جو عام تلعن فيه اللابطولة. تجتث كالحشائش الضارة منه، وتجتث معها حقائق سامة أخرى كالجبن كالتفاهة كالنفاق كالكذب".