كما يقولون "يموت المرء ولا يتعلم". بالطبع يقصدون يتعلم كل شيء، فما من شك في أن الحياة أوسع من إدراكنا وخبراتنا. بَيد أن للتعلم في الكبر دهشة مضاعفة، وحيرة بلا حدود، حين يجد المرء نفسه أدرك أخيرا أشياء كانت تحاصره طوال الوقت. أقول هذا وأنا أسطر للمرة الأولى، المقال الأول لي، بعد أعوام من نصائح الأصدقاء ودعوات محبين كرام من رؤساء تحرير صحفنا الوطنية التي تضطلع بدورها الوطني بإخلاص ووفاء لحق وطنها ومواطنيه عليها.

وكنت في كل مرة أسوِّف وأؤجل، وأتهرب أحيانا. إلى أن تلقيت دعوة أخي الكريم الأستاذ طلال آل الشيخ، للكتابة على صفحات "الوطن"، الصحيفة القوية التي تخوض غمار العمل الصحفي بشجاعة طالما استرعت انتباهي. وللمرَّة –لا أدري كم- جلست أستشير المقربين في هذا الشأن، وجلسوا يشجعونني على القبول كالعادة، إلى أن سألني صديق أثق برأيه: لماذا هذا التردد الطويل وأنت لديك ما تقوله في كثير مما يمر على الناس وتستبد بهم الحيرة، وأيضا تستبد بهم فتاوى "منجمي" بعض وسائل الإعلام و"مهرطقيه".. ألستَ أولى من هؤلاء بالحديث إلى المواطن والمسؤول معا، أنت الآتي من هذا التاريخ الطويل؟

فما كان مني إلا أن كشفت عن خبيئة نفسي هذه المرة، وأجبت الصديق الذي بدا مستغربا أمري: "أنا وضعي حساس، وكل كلمة أقولها ستكون محسوبة عليّ". فما كان من الصديق إلا أن ابتسم ابتسامة عريضة لا تخلو من استنكار لمخاوفي، ثم قال: "ومنذ متى لم يكن جميع ما تقوله وتفعله محسوبا عليك؟ أنت الذي أمضيت هذا العمر في بيت من زجاج، جميع ما تأتي من قول أو فعل شأن عام، لم تعرف الخصوصية في حياتك إلا في اليوم الذي ترجلت فيه عن كرسي الوزارة. ولم نعهدك يوما تضيق ذرعا بشيء من ذلك، بل ترحب وتتهلل وتفاخر بأنه ليس لديك ما تخفيه. يبدو أنك فكرت في الأمر أكثر من اللازم".

ظلت أصداء عبارات الصديق تتردد داخلي، وترتطم على جدران عقلي، ليس من أجل قبول الدعوة القائمة أو الاعتذار عنها، إذ كنت قد حزبت أمري على القبول، لكن مما استدعته عبارات الصديق من ذكريات، يبدو أنه لم يقدر لها أن تموت، وأنها ستغادر فضاء ذاكرتي في طريقها إلى عالم الورق، لنتشارك استدعاءها معا أيها الأحباء، كلما استدعاها موقف، فالشيء بالشيء يذكر.

يبدو أنني فكرت طويلا أكثر مما ينبغي طوال هذه السنوات قبل أن أقرر خوض غمار الكتابة، فكرت أكثر من اللازم، إلى حد أنني نسيت أن أتخذ القرار في غمرة الانشغال بالتفكير الذي اتضح لي أخيرا أنه كان هربا لا يليق بي، بل لا يليق بمسؤول لديه ما يقوله، وبلاده في أمس الحاجة إلى الطرح المعتدل، وطرح غيره من أصحاب التجربة السياسية والإدارية، داخليا إبان توليَّ حقيبة وزارة الصحة، وخارجيا إبان تمثيلي المملكة في المحافل الدولية ذات الصلة بالشأن الصحي.

لكن هذا لا يعني على الإطلاق أن حديثنا سيكون في شؤون الصحة، ولا يعني هذا – أيضا- استبعاد الحديث عنها، إذ سنتحدث في جميع ما يشغلنا هنا في بلادنا، و-أيضا- سنتحدث عن ما قد لا يشغلنا خارج بلادنا، لكن تأثيره علينا أكبر مما نتصور. وسيكون حديثي إليكم مهمة وطنية جديدة، أسأل الله أن يكتب لي فيها التوفيق. دمتم بحب.