الحرية الشخصية أحد أهم وأعلى الحقوق الإنسانية في كل القوانين والشرائع، وللأسف أنني أجد نفسي مضطرا للحديث عن إثبات شرعية هذا المبدأ، وأعتقد أن سبب ضعف مثل هذه المبادئ الإنسانية لدينا هو حداثة تجربة منطقتنا نحو الحضارة وفكرة الدولة الجامعة بعد قرون طويلة من العيش تحت مسمى القبيلة والحكم المحلي الصغير.
نسمع كثيرا عن تقديس الحضارة الغربية الحديثة للحريات الشخصية، وكثيرا ما نسمع نقدا لهذا المبدأ، خاصة فيما يتعلق بالقضايا المرتبطة بالدين. ولكن؛ ما موقف الإسلام الصحيح نحو الحريات الشخصية؟ هل مبدأ الحرية الشخصية يتناقض مع شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
الحقيقة أن الجواب يحتاج إلى مساحة أكبر، ولكن أود إثارة بعض النقاط وتصحيح بعض المفاهيم الخاطئة في وجهة نظري.
بدايةً يجب ذكر أن الحرية مقيّدة بما قيده الشرع الحنيف، وكذا يفعل كثير من القوانين الوضعية أيضا، وهذه قاعدة عامة فيما يتعلق بالتزامات الشخص تجاه دينه أو وطنه أو الآخرين، ولكن فيما يتعلق بالآخرين؛ هل يحق للآمر بالمعروف أن يتدخل في حرية الآخرين الشخصية من خلال مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ فعندما يشرب إنسان الخمر، نجد حالتين؛ الأولى ارتكاب هذا الإنسان جرما دينيا بشربه للخمر، وهو ليس حرا في ذلك، كما يُشرع للآخرين الإنكار عليه طالما أعلن ذلك حسب قواعد الفقه، ولكن (وهذه الحالة الثانية) ماذا لو شرب في بيته وعلمنا أنه يشرب الخمر، فهل يجوز للمحتسب أن يدخل وينكر عليه شربه أو أن يتجسس عليه أو أن ينصب له كمينا ليقبض عليه؟
حالة أخرى؛ عندما يكون هناك رجل وامرأة وبدا منهما شيء يثير الريبة لدى المحتسب، أيّا كانت هذه الريبة، فهنا أيضا حالتان؛ الأولى: أنه إذا كان هناك منكر ظاهر فهذا لا إشكال في إنكار ذلك المنكر ذاته، وهذا بشكل عام. والثانية: هل يجوز أن يُسأل ويُبحث عن أشياء أخرى؟ كتفتيشهما أو البحث والتنقيب في الجوال أو حتى السؤال عن العلاقة بين الشخصين هل هي شرعية أم لا؟ نلاحظ هنا أن الموضوع لا يزال في إطار أن التصرّفَ شخصي.
الرأي - والله أعلم - أن الإسلام نهى عن البحث عن المنكر والسؤال عنه في الحالة الثانية، فلم يأمر الإسلام بالبحث عن عورات الناس والتجسس عليهم من أجل إنكارها! فالإنكار يقتصر فقط على ذات المنكَر الذي ظهر، ولا يجوز البحث والتنقيب في العورات بداعي الإنكار، فهذا نوع من التجسس الذي جاء النهي عنه!
ولذلك يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا)، وقال القرطبي في تفسيره للآية: "ومعنى الآية خذوا ما ظهر، ولا تتبعوا عورات المسلمين، أي لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه حتى يطلع عليه بعد أن ستره الله". فبعد أن أمر الله باجتناب سوء الظن؛ أكّد عليه بالنهي عن التجسس! بمعنى أنك إن أسأت الظن في أحد فأنت مأمور باجتناب ذلك الظن السيئ، وفي حال وجود سوء الظن فإنه أيضا لا يجوز لك أن تتجسس لتتأكد من الظن السيئ!
وكذلك جاء الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام: (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا) وهو مطابق لمعنى وسياق الآية السابقة. وفي حديث آخر: (إنك إن اتبعت عورات المسلمين أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم).
وقد تحدث الكثير من العلماء المتقدمين حول هذا الموضوع عند نقاشهم لمذهب الخوارج الذين كانوا يتعمدون امتحان الناس وسؤالهم عن عقيدتهم لأجل أن يحكموا عليهم بالكفر أو الإسلام! وهذا بلا شك مبدأ مخالف لمقاصد الإسلام العامة ولنصوصه الخاصة.
ونرى موقف عبدالرحمن بن عوف عندما كان يحرس ليلة مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - بالمدينة، فرأوا سراجا في بيت، وسمعا أصواتا مرتفعة ولغطا، فقال عمر: "هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف وهم الآن شرب فما ترى" فقال ابن عوف: "أرى أنا قد أتينا ما نهى الله عنه، ولا تجسسوا وقد تجسسنا"، فانصرف عمر وتركهم. ومن فقه ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه عندما أتي برجل فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمراً، أنه قال: "إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به"، بمعنى أننا كمسلمين لسنا مطالبين بأن نبحث عن فلان لماذا يشرب الخمر وقد استتر، ولكن طالما وقد ظهر ذلك المنكر جهرا وجب إنكار ذاته.
أعود وأقول نعم إن الإسلام وضع ضوابط على الحريات الشخصية، ولكن في الوقت نفسه هناك مقدار من الحرية الشخصية التي تركها الإسلام للشخص، فالمسلم مطالب ويجب أن يُقيِّد حرية نفسه ويجتنب كل المحرمات، ولكنه ترك ذلك للأشخاص، ولم يجعل الإسلام للآخرين أن يبحثوا في مدى التزام كل شخص، وهل صام وصلى؟!
الحديث أعلاه يناقش الرأي الشرعي فقط، وإلا فإن النظام لا يبيح لأحد التفتيش وانتهاك الحريات إلا بضوابط مشددة، وربما تأتي فرصة لاحقة لنقاشها.
كما ضمن الإسلام حرية اختيار الرأي الفقهي الذي يراه الشخص واقتنع به عند خلاف الفقهاء في المسألة، فإذا اختار الإنسان قولا اجتهاديا؛ فلا يجوز لأحد أن يُكرهه بالتزام رأي آخر، طالما أن المسألة تتعلق بذات الشخص، ولم يكن هناك شأن عام أو إضرار بالمصالح العامة.
خلاصة الأمر؛ أن هناك العديد من الممارسات التي ينتهجها بعض الإخوة المحتسبين تحتاج إلى مراجعة في مدى شرعيتها، كما أنه ولعدم وجود نظام يوضح آليات وطريقة الإنكار لدى جهاز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن النتيجة ستصبح أن العاملين في الميدان لهم حرية الاجتهاد وإلزام الناس بما يرون على اختلاف آرائهم، وهذا بلا شك قد يؤدي لبعض الانتهاكات للحريات الشخصية التي يكفلها لهم الإسلام، ولكن هل ستتم مراجعتها؟ أرجو ذلك.