تتفاخر كل الشعوب والحكومات بالإنجازات وبراءات الاختراعات وتقدم النشء في المسابقات العلمية في الأولمبياد الخاص بالرياضيات والعلوم الطبيعية والفلك والطب وغيرها كثير، وكذلك التنافس في أساليب التربية الحديثة ورعاية الموهوبين وتكريم البارزين في مجالات الحياة، وكيف واقع تلك الشعوب مع العلوم والتقنية وكذلك علوم الطاقة، والمبادرة في طرح مجالات جديدة تقضي على البطالة أو تحد من الأمراض أو توجد بدائل للتعايش السلمي مع النفس ومع الآخر، إلى غير ذلك من إيجابيات الإنسان والحكومات، ونحن نتسابق من العام إلى العام في أجمل ناقة أو جمل أو ذود من الإبل، ولكل لون على حدة، وآخرون ينظمون مسابقة لأجل الماعز والضأن، وغيرهم ينظم مسابقة للحمام والدجاج، وقد يكون غيرنا يعمل مثلنا ولكن لا يعطيها الاهتمام والأولوية الذي نعطيها إياها، أو أن احتفالات التقدم بمجالات العلوم والحياة أكثر، ولذلك لا تجد الاحتفالات الكمالية أي اهتمام ولا يلتفت إليها الإعلام ولا الشعوب إلا من الهواة وهم قلة هناك.

إن الاهتمام اليوم بتلك المسابقات أخذنا إلى واقع مختلف عما ألفناه سابقا، وليس معنى هذا أننا نرفضها، ولكن نرفض التعاطي معها بمثل ما نراه اليوم، فهي من موروثنا الذي نفتخر به، ولكن لك أن تتخيل في وقت وجيز كيف تنقلب الصحراء البكر النظيفة إلى أكوام من الزبالة، كلها من نعم الله التي يتمناها الآلاف من المحتاجين في بلدنا، والملايين في بلاد الله الواسعة، وتتسابق جمعيات حفظ النعمة ويفتتحون فروعا هناك للمحافظة عليها من الإهانة والعبث، وذلك لأنهم يخافون من عقاب الله الذي إن حل سيشمل الجميع بسبب أفراد جنحوا عن الأسلوب الأمثل في التعاطي مع النعمة واحترامها وحفظها وعدم الإسراف والتبذير، وكذلك لوجود أناس لا يملكون قوت يومهم وليلتهم، وكل ذلك في سبيل الفوز بأفخم الولائم وأكثر الزوار والبذخ في الضيافة والوفادة، وهذا في كل الأحوال ليس كرما ولا فضلا، ونخشى من العقاب العاجل أو الآجل على من كفر بالنعمة ولم يحفظ حق الله فيها، ولم يقدر حق السائل والمحروم والفقير، "وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم"، هذا إضافة إلى أنها قد أججت القبلية ومهما قيل في نفي ذلك فالواقع يؤكده، ومن حضر تلك المسابقات يعرف ذلك بكل وضوح، وأصبحت القبائل تتنافس فيما بينها حتى وإن كانت الجائزة يقصد بها جمل أو ناقة، وكان هذا التنافس سببا في إذكاء الفتنة التي يتفنن ويتنافس الشعراء في قصائدهم لإبرازها، وكذلك أسلوب طرحها وتسجيلها وإنشادها، ولن تتغير طباع الشعراء طالما أن القصيدة تتجاوز قيمتها 100 ألف ريال، وإنشادها يتجاوز 50 ألفا في ذكر محاسن صاحب الإبل وذكر فضائل قبيلته، وبصورة أصبحت مثار سخرية في بعضها لأن الناس تعرف الممدوح وقبيلته، ولكنه العجب بالنفس والمدح غير المنضبط طالما لا يوجد من يمنع ذلك، وأصبحت محلات التسجيلات تملك رصيدا من القصائد والأناشيد أكبر مما تملكه أكبر مكاتب التلفزيون، هذا غير الفعاليات التي تقام أثناء الاحتفال وقبله وبعده، وتردده القنوات التلفزيونية الشعبية التي أصبحت تعيش على مثل ذلك، وتركنا الأهم والمهم والهام وانسقنا إلى غير المفيد والكمالي، هذا غير الاستنفار للأجهزة الأمنية والحكومية في تلك المسابقة، وربما تركوا أعمالا أهم وتمس أمن الوطن والمواطن في سبيل فوز ناقة أو جمل.

واللافت أن دولة شقيقة كانت تسبقنا في تنظيم تلك المسابقة وللجمل عندهم شأن عظيم، ولكن لم يتجاوزا مثل ما تجاوزنا، بل إنهم شاركوا معنا وكسبونا ورحلوا، ثم أتت بعدنا دولة أخرى مجاورة ولم تعمل مثلما عملنا، إلا من شارك معهم من أصحاب الإبل من رجال هذا الوطن الكريم في كل شيء حتى في التباهي بالنفس والجمل وبصورة لا ترضي الله سبحانه وتعالى ورسوله الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، ولا الإيجابيين من المواطنين لعدم وجود عائد تنموي مؤثر في اقتصاد البلد وناتجه المحلي، وإنما مع تنظيمه ليكون مهرجانا سياحيا منضبطا، ووفق تنظيم دقيق وعمل مؤسسي محكم، وتتولى تلك المهمة الهيئة العامة للسياحة والآثار فهي الأقدر على ذلك بدلا من العشوائية المتكررة، أو يدمج مع مهرجان الجنادرية للتراث والثقافة.

ختاما، لو أن ما يصرف على مهرجانات القبائل في مزاين الإبل يوجه إلى تنمية المواهب والقدرات واستقطاب العقول القادرة على الاستفادة منها فيما يخدم وطننا، أليست الفائدة ستكون للأجيال ولعزة الدين والوطن والمواطن؟، ولو وجه ما يصرفه المهتمون بهذه المهرجانات إلى المحتاجين والمساكين، ألسنا سنحقق التكافل الاجتماعي في أبهى صوره؟، ولو وجهنا جهود العاملين في تلك المهرجانات إلى أمن البلد ألسنا سنحقق للمواطن شعورا بأمنه في وطنه؟، ألسنا نهتم بصناعة السياحة وإحياء التراث؟

الأَولى أن تتوجه مخرجاتنا وفعالياتنا في هذا الاتجاه، ولا نترك للاجتهاد غير المدروس دورا في بعثرة الجهود والأموال أو ازدواجية القرار والمسؤولية، وعلينا أن نقيم التجربة بصدق حتى نحقق الأفضل.