خلال احتفال وزارة الأوقاف المصرية بالمولد النبوي الشريف ـ وهو تقليد اجتماعي راسخ ـ تحدث الرئيس عبدالفتاح السيسي بلغة صارمة وصادمة، مطالبا علماء الأزهر بسرعة بلورة خطاب ديني جديد يواكب مستجدات العصر، وتصويب المفاهيم انطلاقا من كتاب الله وسُنة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لحفظ قيم الإسلام وثوابته وإنهاء الاستقطاب الطائفي ومعالجة أزمة التطرف، ووجه حديثه للدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، قائلا: أنتم والدعاة مسؤولون أمام الله عن تجديد الخطاب الديني، وسأحاججكم أمام الله"، مؤكدا أن سمعة المسلمين تأثرت بانتشار الإرهاب.

ودعا السيسي إلى نقد الذات وإطلاق علماء الأزهر "ثورة دينية" فكرية للتجديد الذي يترقبه المسلمون على رأس كل قرن بعدما تحولت الاجتهادات التقليدية لمقدسات تُراق لأجلها الدماء، وتمس سمعة المسلمين، وتهدد علاقتهم بالآخر، مؤكدا أنه سيوفر الدعم الكامل للعلماء.

فجرت دعوة السيسي ولهجته جدلا في الأوساط الإسلامية بشتى مشاربها، وصل إلى درجة إطلاق بعض الغُلاة فتاوى بتكفيره، لكنه لم يعقب، وجاء رده عمليا، فبمجرد عودته من زيارته للكويت توجه للكاتدرائية، إذ كان الأقباط يحتفلون بعيد الميلاد، وذلك لتهنئتهم، في سابقة هي الأولى من نوعها، حتى زيارة الرئيس الراحل عبدالناصر كانت خلال افتتاح مقر الكاتدرائية.

وبينما كان آلاف الأقباط يؤدون صلاتهم فوجئوا بالسيسي على المنصة يعانق البابا تواضروس، فاشتعلت القاعة بالتصفيق والزغاريد، وسط ذهول امتزج بفرحة عارمة، وتوقفت الصلاة ليخاطب الحضور بكلمة مقتضبة، استهلها بتهنئتهم، وتحدث بعفوية مؤكدا أنه جاء لتأدية الواجب لمواطنين مصريين، وقاطعه الأقباط بهتافات: "بنحبك يا ريس"، فرد عليهم "وأنا كمان بحبكم"، وسنفتح طاقة أمل، ونبني وطنا يتسع للجميع، ولن أضيع وقتكم لتواصلوا صلاتكم. وانصرف.

اشتعلت وسائل الإعلام المصرية ومواقع التواصل الاجتماعي بالزيارة التي استغرقت عشر دقائق، لكنها كما وصفتها صحيفة "نيويورك تايمز" كرست رؤية الأقباط للسيسي باعتباره بطلا قوميا يحظى بتقدير شعبي ورأس الكنيسة البابا تواضروس، الذي وصف الزيارة بأنها "مفاجأة سارة ولفتة إنسانية كريمة".

فعلها السيسي بذكاء السياسي المحنك، متجاوزا السجالات الدينية وعقب عمليات قتل واختطاف لأقباط يعيشون بليبيا، كانت أبشعها جريمة قتل طبيب مسيحي مصري وزوجته وكريمته، فضلا عن حرق كنيستين بطرابلس ومصراته، إضافة إلى سلسلة طويلة بمصر من الاعتداءات بسبب بناء كنائس وإقامة الشعائر الدينية، وعلاقات بين مسلمين ومسيحيات تحولت إلى عنف طائفي تصاعد منذ سقوط حكم الإخوان، وبلغ ذروته بحرق عشرات منازل ومتاجر الأقباط، وقتل واختطاف أعداد كبيرة منهم.

أدرك السيسي بخبرة "رجل المخابرات" أن جوهر الأزمة سياسي، لهذا يسعى بخطى محسوبة لتطويق ظاهرتي: هجرة الأقباط إلى الخارج، وتشرنقهم داخليا، بعدما وضع أصابعه على الكود المصري.

فوفقا لتقديرات مستقلة فإن عدد الأقباط بمصر يتراوح بين 15 إلى 18 مليون نسمة، ليس بينهم أميون، وعاشوا مع المسلمين قرونا بسلام، حتى اندلعت "موجات طائفية" تشتعل وتخمد حسب تصاريف السياسة، ويبدو واضحا أنه حسم خياره لصالح "تفعيل المواطنة" ليدحض مفاهيم خاطئة كالزعم أن هوية مصر تائهة بين الفرعونية والقبطية والرومانية والإسلامية والعربية، لكن المتأمل الموضوعي للتاريخ والواقع، سيدرك تناغم وتعايش هذه الثقافات، لتنتج في المحصلة النهائية ما وصفته بتعبير "الكود المصري".

ولعل يقيني بفرص نجاحه في هذا التحدي ترجع إلى طبيعة مصر التي علمتها صلابة الحجر الصبرَ والثباتَ، وتدفق النهر السماحةَ والعذوبةَ، وثمار الأرض الرحمةَ والعطاءَ، وبراح الصحراء وقسوتها سعةَ الأفق وقوةَ الاحتمال، وتعاقب المحن فنونَ السخرية للترويح عن النفس، واستخدامها كسيف ناعم لمواجهة الاستقطاب والطائفية.