لقد أصبحنا في زماننا القريب نعُد القيام بالواجبات التي تربينا عليها ضرباً من المثالية لأن السواد الأعظم من البشر تلبسه عدم المبالاة بالآخرين، وتركزت الأنانية في ذهنه حتى أصبح لا يرى سوى نفسه وليس غيره، في حين أن القاعدة هي الالتزام بكل حق لنا أو لغيرنا وأداء كل واجب إن كان لنا أو علينا وفق أفضل طرق، وأرقى أسلوب، ومع الأسف أصبح ذلك الشعور هو الاستثناء، ووقعنا في السلبية بمحض الإرادة، وتراكمت تبعاتها علينا وعلى أسرنا وعلى وطننا، وذلك مما كسبت أيدينا وخسرنا مادياًّ ومعنوياًّ وخلقياًّ وتفاقمت خسارتنا في التعامل. في حين أننا خلقنا لنكون إيجابيين لا يصدر منا من قول أو عمل إلا كما أمرنا به خالقنا عز وجل، وما ربانا عليه نهج نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، ولو صيرنا أنفسنا برقيب داخلي في ذواتنا لكنا أفضل الشعوب وأرقى الأمم، ولكن لا ترانا نلتزم إلا إذا علمنا أن ثمة عقابا سيكون في المخالفة أو جزاء وغرامة عند تجاوز أي خط أحمر مهما كان نوعه وقيمته وأثره ومدته.
ليس أصدق لدينا أو إلينا من أنفسنا إذا صدقنا معها فهي الرقيب الذاتي الصادق، ومن خلالها نستجلب أفضل الإنجازات وأجمل النتائج، وهي الصديق الذي لا نستطيع أن نخونه أو نقلب الموازين معه، بل إن الوضوح مع النفس هو قمة المثالية في التعامل، وليس في ذلك جلدٌ لها أو قسوة عليها، وإنما هي الشفافية الحقيقية التي لا تحمل أي وجه آخر بهذا الوضوح وتلك الشفافية، وذلك الصدق نصل إلى الوضع المثالي في كل علاقاتنا وأعمالنا وأقوالنا وحتى ظنوننا، وبها نربي النفس على الفضيلة ونحقق بالرقابة الذاتية السعادة لأن السعيد من وعظ بغيره والتعيس من وعظ بنفسه، ولو تحقق لأصبح الجميع سعداء في أنفسهم وفي معاملاتهم وفي أسلوب معيشتهم وفي مدنهم، وبهذا تؤدي النفس أمانتها على خير وجه وفي كل زمان ومكان، فالنفس السوية جبلت على ما ينفع وليس على ما يضر، ولذا فإن الرقيب الذاتي يحقق النفع والراحة والهدوء والأمان الداخلي مع الأطراف الأخرى في البيئة نفسها وفي بيئات متباعدة وجنسيات وأعمار مختلفة.
إن ارتفاع مؤشر الرقيب الداخلي لدى الإنسان يعكس سلامة البيئة التي نشأ فيها وتربى عليها، ويعكس أيضاً القدوة الصالحة له ثم يعكس بالتفصيل كل موجودات حياته التعليمية ومدى نضجها وتأثيرها الإيجابي على ثقافته ويتضح من خلال ارتفاع المؤشر للرقيب الذاتي لدى الإنسان عمق تدينه والتزامه بتعاليم الشرع الحكيم وتعميق الكثير من المبادئ الرائدة في مجتمعنا الإسلامي، التي تحث على الالتزام بكل فضيلة وتدعو إلى احترام الحقوق حتى وإن كانت صغيرة أو من له حق فيها صغير، بل حتى لو كان غير مسلم بالأصل. كذلك يتضح من خلال ارتفاع الرقيب الذاتي أن الإنسان قد استفاد من تجارب الشعوب التي سبقتنا في مجالات الحياة، وكيف أن رقيبهم الداخلي أقوى من أنظمة بلدانهم ومخالفته أقسى من أشد العقوبات والغرامات على النفس فيما لو خالفوه. ويعكس ذلك الأفق الرحب لدى عموم الناس بمستقبل الأجيال وما يجب أن يكونوا عليه، والكيفية التي يجب أن يتعاملوا بها مع موجودات عصرهم التي سنترك جزءًا منها لهم لينعموا بها.
إن في بذرة الرقيب الذاتي في أنفسنا أو في من نعول رفعًا لمستوى الوعي وحفظاً للماديات التي ننعم بعها الآن وتحقيقا عمليا لأداء الأمانة كما يجب أن تؤدى، وفي الحفاظ عليها تحقيق للمواطنة الصالحة والقدوة الحسنة، وفيه خفض للإنفاق الحكومي من جراء أعمال الصيانة التي يتسبب فيها سوء الاستخدام لتلك الماديات ولأنها وضعت ولها صفة الدوام، فسنتركها لمن بعدنا كما يجب أن تترك لهم، وعندها سيكون هناك استخدام أمثل للموارد، وتوجيه الموارد الأخرى لمشاريع يحتاجها المواطن في أجزاء أخرى من وطننا الكبير، وفي تحقيق ذلك تعزيز لتصدير السلوك الأخلاقي الراقي الذي نعيش به بدلاً من استيراده والحديث عنا بمثالية بدلاً من الحديث عن الآخرين بمثالية.