حظيت قضية فلسطين بالاختلاف.. والخلاف والضغوط والتبني ورفع قميصها للمزايدة بين المتدينين والمدنيين والعسكريين والشيوعيين والقوميين والعرب والعجم وفلسطينيي 48 وفلسطينيي المهاجر، ولم يغير هذا في واقعها شيئاً ولم يحرك ثباتها قيد أنملة.

كانت القضية في 48 أصغر حجماً وأيسر حلاً، ثم صارت تتوالى الخسائر تباعاً في 67 وما تلاها، وهي خسائر على الأرض وخسائر في وحدة الممثلين وتعدد ولاءاتهم وتحالفاتهم بين "حماس" أرعن و"فتح" مهادن.

بل إن كثيراً من الأنظمة والزعامات العربية قد اكتسبت مشروعيتها من هذه القضية حتى صارت فلسطين مزاداً للتكسب واصطفاف الولاءات الشعبية وعواطف الغوغاء.

كنت ولم أزل وأنا صبي لا أجد صوتاً يعلو على صوت فلسطين في أبواق الإعلام العربي، وكان يتم شحني بحلم العودة والصلاة في المسجد الأقصى، لكنني كنت أكبر والحلم يصغر، وكنت أتقدم والأمل يتأخر، وقد وصلت إلى درجة قريبة من اليأس في تحقيق الزيارة/الحلم.

لما كنت في أواخر العشرينات من عمري صدف في تلك المرحلة أن كنت في لندن برفقة الوالدين ـ يحفظهما الله ـ لقضاء الإجازة هناك.

في أحد الأيام كنت أسير في شارع "ريجنت" باتجاه البيكاديلي، وفجأة لمعت في عيني لوحة مكتب طيران "العال" الإسرائيلي، فتذكرت حينها فلسطين، وتذكرت رغبتي في زيارة القدس والصلاة في مسجدها الأقصى، ثم راودني شيطان التقصي وحاصرني غبار الأسئلة من مثل: هل الأمر متيسر للسفر معهم لكل من شاء؟

هل الرحلة إلى "القدس" متاحة مثلها مثل بقية عواصم ومدن العالم؟

هل هناك شروط.. واستثناءات.. هل يتساوى كل هؤلاء البشر الذين يعبرون الشارع في الاتجاهين أم أن السحنات والجنسيات تفرق؟

داهمتني الأسئلة حتى وجدت أصبعي تضغط جرس الباب الخارجي المغلق بإحكام؟ ولم ألبث إلا قليلاً حتى سمعت أزيز الباب يأذن بالدخول، فدفعته ثم وجدتني في مواجهة موظف الطيران وهو يسألني كيف يمكنني أن أساعدك؟ How can I help you قلت له مباشرة: فقط أود أن أعرف هل يمكن لمن هو مثلي أن يسافر معكم إلى مدينة القدس؟ وعلى الفور بادرني الموظف بالسؤال التالي: Where are you from من أين أنت وما هي جنسيتك؟

قلت له وقد أدركت أنني "توهقت" بالدخول: أنا من السعودية؟

ثم وفي لحظة عابرة وجدت رقاب بقية الموظفين تلتفت جميعها صوبي فيما غطت موجة من التوجس والتوتر على الجميع، ماجت الأبصار في الأحداق. أحمرت الوجنات وزاد صرير الأسنان وعلا المكان دخان الأنفاس "الداكن" خشيت على نفسي في هذه اللحظة أن تتم إدانتي أو أن يصار إلى توريطي بأي تهمة وأدركت حجم "التهور" الذي أوقعني فيه هاجس الأمل بزيارة المسجد الأقصى.

وفي لحظات السكون التي مرت سريعاً رد علي الموظف بوجه علته الغبرة.. وأرهقته القترة: عفواً لا يمكنك السفر إلى القدس، فليس هناك علاقات مع السعودية.

ما إن انتهى من الإجابة حتى شاع البشر في نفسي وتنفست الصعداء ثم عدت إلى الخلف بسرعة مارقة كأنني أختبر إمكانية الانعتاق من هذه الورطة، لقد شعرت أن الموظف ما صدق على الله أني أطلع عنهم.. أيضاً أنا ما صدقت على الله أني أطلع منهم.

لم أخبر بهذه الواقعة التي مضى عليها خمسة وثلاثون عاماً أحداً إلا بعض الأصدقاء المقربين جداً، ولم أتجرأ على ذلك إلا بعد أن أدركت أن كثيرا من الدول والمنظمات العربية يزايدون في المقاطعة والممانعة وهم يصافحون هذا "العدو" من تحت الطاولة.

وكنت وما زلت ضد هذا "النفاق" السياسي النفعي الرخيص الذي يجعل القضية شماعة يتم رفعها والتمسح بها كيفما ومتى دعت الحاجة.

إن الذي أثار في نفسي كل هذه المكامن وكل هذه الذكريات هي الزيارة الأخيرة للقدس التي قام بها الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي الدكتور إياد مدني والتي حظيت بنصيب الجدل بين مؤيد ومعارض، لو كان لي من الأمر شيء لدعوت جميع العرب والمسلمين إلى السير في هذا الاتجاه وتثبيت الحق العربي في زيارة القدس والصلاة في المسجد الأقصى دون الانتظار إلى حلم التحرير، بل إنني أرى أنّ تتابع الزيارات في ظل "الاحتلال الإسرائيلي" سيكرس الوجود والحق العربيين وسيتحقق تباعاً الإقرار الدولي بهذا الحق وسيتوالى الدعم ولن يتمكن العدو الإسرائيلي حينها من التراجع.

لقد كنت وما زلت مع سياسة التسليم بالأمر الواقع واللجوء إلى فلسفة الأخذ ثم المطالبة بما يعني أن الأمور يمكن تحقيقها بالتدرج والمصانعة والحنكة والحكمة.