"نزيف حاد تحت غشاء الدماغ، مع كدمة في الدماغ، نزيف تحت العنكبوتية إثر إصابة شديدة في الرأس، كسر في الفقرة الرابعة من الفقرات القطنية في منطقة الظهر، وكسر في الساعد الأيسر، اقتلاع أحد الأظافر، وحروق وكدمات متفرقة بجميع أنحاء الجسم". كان هذا تشخيص طفلة في الخامسة من عمرها حينما أدخلت إلى أحد مستشفيات العاصمة الرياض وبقيت فيه لمدة ثمانية أشهر حتى توفيت متأثرة بإصاباتها المذكورة أعلاه، التي تسبب بها والدها الذي دأب على تعنيفها وتعذيبها بهذه الطريقة الوحشية. تمت محاكمة هذا الأب بحكم أراه أقل من حجم الجرم والفاجعة والألم التي لحقت بالصغيرة المتوفاة ولا بحق أمها المكلومة، فقد حُكم عليه بالسجن ثماني سنوات وبالجلد 800 جلدة مع دفع دية تقدر بمليون ريال.
وكشعب مستهلك للقضايا المحلية الغريبة والطارئة، نتفاعل معها سريعًا وننساها سريعًا، فإن قضية هذه الطفلة قد نُسيت حتى ظهر أحد المحامين يوضح براءة هذا الأب المتهم وأن "الاستئناف" أيدت براءة المتهم وأنه سيُطلق سراحه قريبًا. بل إنه ينوي أن يقاضي الإعلام والمستشفى الذي يدعي أنه تسبب في موت ابنته!
مع هذا الاستخفاف بعقول الناس ومشاعرهم وهم يرصدون تداعيات الأحكام أمام قضية عنف واضحة، ومن طرف يتوسم أنه يكون الملجأ والأمان لطفلته، لم يتساءل – أو لعله تعمد تجاهل السؤال -: كيف أُصيبت الطفلة في هذا العمر الغض بكل تلك الإصابات الوحشية القاتلة؟! وتحت أي مبرر لا إنساني أقنع المؤيدين له أن ما حدث تأديب لها أو غير ذلك من مبررات عقيمة، ثم يعلقها أخيرًا على مشجب الأخطاء الطبية؟!
لم تكن للأسف هذه الطفلة هي الضحية الوحيدة للتعنيف والإيذاء الجسدي من أحد الوالدين أو كليهما أو من أحد أفراد المجتمع، وإن لم تكن جميعها وصلت إلى الموت مثلما حدث مع هذه الطفلة، ولكنها تترك آثارها السيئة على صحة الطفل الجسدية والنفسية. نظام حماية الطفل من الإيذاء الذي أقر مطلع العام الهجري سيكون له بالتأكيد دور فاعل في حماية الصغار من أي إهمال أو إيذاء أو فعل يُسيء لهم. ولن ينجح المجتمع في استيعاب مثل هذا الأمر حتى يشاهد التطبيق العملي للحماية الفاعلة للأطفال، وتطبيق العقوبات الصارمة بحق من يسيء أو يهمل أحدهم. أما أن تصل الإساءة للطفل حد التسبب في وفاته فإن الدور هنا ينتقل للمحاكم الشرعية التي عليها أن تعامل هذا القاتل - سواء كان من أقارب الطفل من الدرجة الأولى أو من غيرهم - بذات الصرامة للقاتل عمداً لأي شخص آخر.
ولعل الأمر الملكي الذي صدر مؤخرًا بتشكيل لجنة شرعية موسعة لوضع مدوّنة للأحكام الشرعية قد يسهم في اتخاذ خطوة لاحقة أكثر جرأة في وضع قانون ثابت يسهم في تأسيس نواة دولة حقوق ومدنية تهتم بحماية الإنسان، وفي الانتصار للطفولة المهدرة على أيدي آباء أو أمهات لم يستحقوا شرف هذا الهبة الإلهية، وأن تراجع مثل هذه اللجان بعض المسائل الفقهية التي يعمل بها ويمكن أن يتباين الحكم فيها بين أكثر من قاض، كما ورد على سبيل المثال في المغني لابن قدامة، في كتاب الجراح صفحة 227، في مسألة تقول: "ولا يقتل الوالد بولده، وإن سفل". ففي مثل تطبيق هذه المسألة على قضايا التعنيف التي تتسبب في موت أحد الأبناء من آبائهم؛ تكريس في ذهنية الرجل أن له الحق في العنف وممارسة التعذيب لابنه ولو وصل به الأمر لحد الموت، بالرغم أن الكتاب نفسه يفرق بين الأم والأب في هذه المسألة ويرى "إيجاب القصاص على الأم بقتل ولدها" (صفحة 228)، ولا أعلم هل سيكون الحكم ثماني سنوات و800 جلدة لو كان القاتل لهذه الطفلة هي الأم؟!
مشكلتنا في هذه القضية ليست مع الأب نفسه كشخص ولا مع التوجه الذي يمثله واللبوس الذي يلبسه ويستدني به الشفقة والتعاطف؛ بل المشكلة الكبرى هي في الإنسانية المسلوبة من أشخاص غير أسوياء، تمنحهم الحق في التطاول على الآخرين من أطفال أو نساء أو غيرهم، سواء كانوا من المقربين أو غير المقربين، الذين يحاولون أن يضفوا عليها صفة الشرعية، أو حينما ينفدون بجلدهم منها ويبرزون أنفسهم كواعظين ومتحدثين باسم الله ودينه. وكأنهم بهذا ومن معهم يبررون أو يدافعون أو يتعاطفون أو حتى يقفون في صف الحياد تجاه تصرفاتهم، وكأنهم يقولون ضمنًا لمن يسيء لطفلة وقد يقتلها: افعل ولا حرج!