يعود سوق عكاظ بوجهه المشرق وتاريخه التليد ليحيي نشاطه الثقافي والأدبي في دورته الرابعة والتي ستكون فعالياتها قد انطلقت قبل عدة أيام من نشر هذا المقال. هذه التظاهرة الثقافية الكبرى والتي أسبغت ثوب الحياة على احتفالية كانت قد انقطعت منذ ثلاثة عشر قرناً، تحمل هذا العام أسماء جديدة لمفكرين ومبدعين من المملكة وعدد من الدول العربية.
كان سوق عكاظ في الماضي الملتقى التنظيمي للقبائل باعتباره معرضاً تجارياً ومنتدىً اجتماعياً حافلاً بكل أنواع النشاط، وكان منبراً يبلغ الحاضرُ الغائب بما أُعلن فيه، وما عُقد من معاهدات بين القبائل. كان سوق عكاظ في الماضي إذن مركز نشر وإعلام كما كان محفلاً للتنظيم الإداري للقبائل. أما وقد تطورت الدولة الحديثة وتطورت وسائل الإعلام والاتصال، فلا بد أن يأخذ سوق عكاظ في نسخته الحديثة دوراً مختلفاً أكثر التصاقاً بالهم المجتمعي الحالي مجدداً في الطرح والتناول للقضايا المعاصرة والملحة. اليوم إذن هو منتدى ثقافي مهم يضطلع – أو ينبغي له أن يضطلع - بشجون الثقافة وتطور المجتمع، خاصة أنه يضم مجموعة من المثقفين العرب الذين تتاح لهم فرصة اللقاء والإبداع والتواصل لتحريك الفعل الثقافي-الاجتماعي الساكن.
ومن خلال برنامج الاحتفال الثري، أتوقع أن يكون مهرجان هذا العام مميزاً وجاداً في التحفيز على مساءلة العقل العربي وطرح الأسئلة النقدية الجادة كي نسهم في بناء صيرورة الإنسان وتطوره. كنت قد تساءلت في مقال الأسبوع الماضي عن غياب تأثير المفكرين والمثقفين العرب على تطوير الواقع وتطوير مناهج جديدة للمعرفة تساعد على انتشال الإنسان العربي من أزمة التخلف الحضاري والدخول في مسيرة النهوض والتأثير.
إن منظومة الكون، كما يشير بعض المفكرين، تقوم على ثلاثة عناصر: هي الكينونة (الوجود)، والسيرورة (الزمن)، وهذان الجانبان ليسا خاصين بالإنسان وحده بل بكل المخلوقات في هذا الكون. أما العنصر الثالث فهو الصيرورة، ويعني التطور (جانب من تغير الظواهر وتطورها الشاملين والمستمرين في العالم) ويختص بالإنسان وحده، وهو ما يميز عالم الإنسان الفاعل عن غيره من المخلوقات.
من هذا المنطلق فإن سوق عكاظ، باعتباره تظاهرة ثقافية كبرى للمبدعين والمثقفين، مطالب بل ومتوقع منه أن يسهم في صيرورة المجتمع العربي، وبالتالي في التأثير على الفكر والذهنية العربية التي باتت تحترق في أتون التلقي والتقليد والاستهلاك دون الإنتاج.
وكي لا يظل هذا المهرجان مقتصراً على كونه تظاهرة ثقافية آنية تنتهي بانتهاء الحدث، مع اعترافنا بأهمية التظاهرات الثقافية ودورها الذي لا ينكر في تحريك الساكن، فإننا نأمل أن يمتلك السوق توجهاً واضحاً وآليات طويلة الأمد للوصول إلى غايات تهدف إلى تفاعل الثقافة العربية مع كل ما يجايلها من ثقافات إنسانية. وهذا يعني أن يكون هناك توجه لأن تكون نشاطات هذا المهرجان الأدبية والاجتماعية والحضارية نشاطات فاعلة في تكوين البناء المعرفي التراكمي للإنسان العربي أولاً، ومن ثم الوصول إلى دائرة التأثير العالمية. فبناء المعرفة، ناهيك عن إنتاجها، هو نتاج مسيرة طويلة تعتمد على التراكمية والتجريبية والتفاعل. ولذلك فإن تبني السوق للتجريببة والتفاعلية معاً، يعمل على إكساب المجتمع، من خلال التجربة هذا العام والأعوام التي سبقته والأعوام التي تليه، الخبرة التي تبني المعرفة كما يقول التجريبيون. لكن المعرفة يجب أن تكون أيضاً مفتوحة للنقد والنقاش العقلاني، فالعقل يدلنا على المعرفة كما يقول العقلانيون.
لكن استعمال العقل دون تطبيقه على التجربة يقود حتماً إلى الوهم، بينما التجربة وحدها ستكون ذاتية مجردة تفتقر إلى البناء المضمن تحت العقل المجرد. ولذلك فطريقنا قد يكون كما يقول كانط هو طريق وسط بين التجريبية والعقلانية. أي أن نسمح للفرد والمجتمع بالفرصة للمرور بالتجربة على شرط أن تخضع هذه التجربة للنقد العقلاني والمساءلة المتجددة، كي لا تكون التجربة بحد ذاتها هي ما يحدد سلفاً كل ما يليها بعيدة عن العقل الفاعل والمتفاعل مع المستجدات والتحولات في العالم من حولنا.
إن منطلق دعم الفكر ودعم صيرورة التطور المجتمعي إنما يكمن أيضاً في نبذ الاستعلاء وعدم استثناء الاختلاف. ولهذا فعلى المهرجان ألا يستثني المختلفين والأفكار المختلفة مهما بدت حدتها، فحتى أصحاب النظريات التي قد تبدو خارجة عن المألوف يجب أن يأخذوا فرصتهم في عرض أفكارهم لكي يتم الحوار والبناء المعرفي الذي هو سمة للصيرورة الإنسانية للمجتمعات والأفراد المؤثرين.
نتمنى مخلصين أن تكون تظاهرة سوق عكاظ أبعد من مجرد ظاهرة ثقافية عابرة، بل أن تكون قائمة على جهود واعية مقصودة ومبرمجة من أجل بناء التراكم المعرفي الذي يقودنا إلى إنتاج المعرفة ويأخذ بمجتمعنا نحو مصاف الأمم الحضارية، وهو موقع يستحقه وطننا بما له من ثقل وتأثير اقتصادي وسياسي.