عقود الخنوع والاستسلام والرضى بالقرار مهما كان انحيازه أصبحت من الماضي، فالمملكة العربية السعودية باتت تصنع القرار وتدفع الآخرين لتنفيذه، فلم تعد ذلك الطيب الذي يسدد ويقارب لأجل أن تسير الأمور بأقل الخسائر، ليكون اعتذار المملكة عن مقعد مجلس الأمن في أكتوبر 2013 كالإعلان الرسمي الذي أذهل العالم، وجعل أصحاب القرار فيه يتساءلون عن الخطب والخطاب.
ولم تكن الجرأة اللافتة تلك التي لم يسبقها إليها أحد، إلا خطوة غير مسبوقة في المنظمة الدولية، بل إنها الرسالة الأهم والأقوى في التعامل مع ما يحدث في العالم ويمس السعودية والعرب.
السعودية برفضها العضوية أعلنت، وبلسان العالم الذي ينشد العدل والسلام، أنه ليس هناك من يحتمل غطرسة إسرائيل وخنوع أميركا لها، مع صمت الأخيرة وعدم تفاعلها تجاه ما أسسته من طائفية في العراق، فضلا عن كارثة وويلات سورية ودعم روسيا لمن يعيث فيها قتلا وتشريدا؟!
التوجه الحاسم الذي لا يقبل الخنوع والتودد حضر وبشكل جلي مرة أخرى ليؤكد أن ما أقدمت عليه في المبنى الأممي ليس أمرا طارئا، ولا فعلا للفت الانتباه لشأن وقتي معين، وفي هذه المرة وبما يؤثر على العالم جميعا وأصحاب القرار في هذا العالم ليخبرهم أن من يملك الاقتصاد القوي كمن يملك السلاح القوي، كلاهما فعّال ومؤثر في القرار الدولي، لتحضر أسعار النفط وفق الاستراتيجية التي تريدها السعودية، لا كما تريدها روسيا أو إيران ومن سار على دربهما، الشوكتان اللتان ما برحتا تنهشان في خاصرة العرب، ومعظم العرب مستسلمون قانعون، لكن في هذه المرة السعودية قالت لا.. وسمع العالم كله هذه الـ"لا"، وآمن أنها حقيقة وقوة اقتصادية عظمى وتأثيرها قائم لا محالة، ولعل ما ذكره الخبير البريطاني ادموند أوسليفان، "مؤلف كتاب الخليج الجديد": رئيس مجلس إدارة شركة ميد إيفنتس الاقتصادية البريطانية، يؤكد أن السعودية باتت قوة مؤثرة على القرار العالمي حينما قال: "هذه واحدة من أهم مبادرات السعودية السياسية في العصر الحديث، إنها ليست من دون مخاطر، ولكن لدى السعوديين السلطة السياسية والموارد الاقتصادية لجعلها تذهب بعيدا".
لقد صبرت السعودية طويلا على القرارات الفردية والتسلط من خلال الفيتو في مجلس الأمم وخلال المؤتمرات والتداخلات التي باتت تمزق العرب. لذا كان الفيتو السعودي الاقتصادي أعمق وأشد تأثيرا على من يريدون أن يسيروا العالم وفق نظرتهم وما يريدون لأنفسهم وحلفائهم، سورية تعاني الأمرين لأن روسيا وإيران تريدان ذلك، والخليج مهدد باستمرا من ايران، وأسلحتها النووية والعالم يفاوضها باستحياء وهي مستمرة في غيها وتهديدها.
الفيتو السعودي جدير أن يعيد ترتيب الأولويات في العالم، فلم يكن مقبولا بعد اليوم أن يكون هناك متحكمون يقودون العالم إلى حتفه، كل يرمي بالفيتو في مجلس الأمن لأجل مصالحه، فالفيتو الاقتصادي الذي ظهر فعله بتجلٍ لن يكون صرخة وقتية، بل انطلاقة مبشرة باستخدام الشأن الاقتصادي كسلاح كما هو سلاح القوة والعتاد العسكري المتفوق.
ختام القول، نتمنى أن يسهم الموقفان الجريئان السعوديان الشجاعان في ترتيب الأولويات في الأمم المتحدة ومجلس الأمن فيها، والحقيقة أن الموقفين قد أعادا فتح ملفات كثيرة منسية في الأمم المتحدة، ولعل تنامي الاعتراف بدور فلسطين أحد أهمها، فضلا عن النظر بمطالبات الدول النامية بموضوعية وبعيدا عن الانحياز والتسلط، وإن كنا نتمنى أكثر أن يشمل الأمر الدول الخمس دائمة العضوية، تلك التي تسلطت كثيرا بامتلاكها حق النقض "الفيتو".