قبل عشر سنوات، وتحديدا في نادي مكة الثقافي، استمعت لأول مرة للمقولة التي باتت اليوم تروج - كمسلّمة للأسف- بأننا "حاربنا جهيمان ولكننا طبقنا أفكاره خلال عشرين عاما بعده"، وكتبت مقالة حينها، رددت فيها على زميلتنا الأكاديمية هتون الفاسي التي فاهت بتلك الجملة.
المقولة تتكرر بصورة أو بأخرى، إن في مقالات كثير من الزملاء الليبراليين، أو في مشاركاتهم الفضائية، يدندنون ويرددون: "التيار الديني الذي يهيمن على القرار المجتمعي هو سبب تخلفنا عن التنمية"، أو مقولة ثانية: "الصحوة الإسلامية التي مرت على المجتمع السعودي جعلتنا نعيش ظلاما دامسا وأطفأت الفرح في حياتنا"، وثالثة: "التيار الديني وفتاوى العلماء حجر عثرة أمام انخراطنا في عالم المعاصرة والحداثة"، وتتكرر المقولات في ظل مناخ جديد هو مختلف بالكلية عن الثلاثين عاما التي مضت، وتغيرت الأفكار والمواقف والوضع السياسي والاجتماعي برمته.
الحقيقة أن إطلاق تلك الأحكام جزافا هو خطأ منهجي كبير في الحكم، وكون أن الظروف اليوم باتت تتيح أمثال تلك الأحكام بحق حليف أساسي مع صانع القرار من ثلاثة قرون مضت؛ لا يعني أنها صحيحة بقدر أن الاحتراب الفكري والأيديولوجي في صميم تلكم الاتهامات، وهذه لا تؤخذ أبدا إن وضعت تحت مجهر الموضوعية والمنهجية العلمية في الأحكام، وإلا لو أتينا إليها وناقشناها جزئية جزئية، لرأينا تهافتها وسقوطها كورق الخريف. لنأخذ التنمية كمثال بسيط: بالله عليكم، أكل هذه الجامعات الشاهقة، والمعاهد العلمية والمدن الاقتصادية المتعددة، وأرامكو، وسابك.. أكل هذا هو تخلف؟! من يقول بذلك فقد سمل التعصب والهوى عينيه.
بل أكثر من ذلك، هذا الموقع السياسي الذي نحن فيه كدولة، نقود فيه الأمة العربية والإسلامية، وبتنا الرأس والقلب لهما، أكان التيار الديني أم فتاوى العلماء سببا في عدم وصولنا إلى تلك المكانة؟.
ككل المجتمعات في العالم، نمر بفترات مخاض وتحوّل، وهذه الممانعات هي أساس في كل عملية انتقال، ولكن تأملوا في معظم الممانعات التي تخندق خلفها علماء الشريعة؛ ستجدون أنها بعد فترة من الزمن، تخفت وتنتهي ويمضي ما غالبه خير لهذا المجتمع وأفراده. دونكم الموقف من الصورة، والتلفاز، وتعليم المرأة وعملها، والابتعاث، ومعظم تلك الممانعات التي تمليها على العلماء؛ أمانة وغيرة وخوف على دين وهوية وقيم هذا المجتمع المحافظ.
ما حصل ويحصل في الماضي والحاضر، أن العلماء بحكم مسؤوليتهم المنوطة بهم، يبذلون النصح ويقولون بالفتوى التي يدينون الله فيها من موقعهم وزاويتهم، وينتهي دورهم وقد أدوا الأمانة، ولكن الدولة من موقعها ترى الزوايا كلها، وولي الأمر يقرر بعدها المصلحة للمجتمع، وإليكم – كمثال بسيط - ما حصل في توسعة المطاف والمسعى. الناس اليوم يدعون لمليكنا عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله وشافاه- ويلهجون له بالشكر، بعد أن وسّع عليهم، رغم أن بعض العلماء كانوا متحفظين، ولكن مصلحة الأمة، وأقوال العلماء الآخرين الذي أفتوا بالجواز، هما اللتان أخذ بهما ولي الأمر، وكان في قراره الخير والمصلحة الراجحة للأمة، ومضى الأمر وانتهى وبات تاريخا، ولم يحتج بعض العلماء أو قاموا بالمشاغبة أو إثارة الفتنة، بل أرجعوا الأمر لولي الأمر، وتركوا له القرار، وقد أدوا ما عليهم من أمانة الفتوى والنصح.
من يتهم التيار الديني أو العلماء بأنهم سبب التأخر، هو يلتف على الحقيقة الواضحة وضوح الشمس، ويجبن أن يشير بسبابته إلى الأسباب الحقيقية، وبرأيي أنه كان بإمكاننا أن نكون أفضل بكثير مما نحن فيه، بيد أن سبب التأخر لا التخلف؛ لا يكمن في ممانعات التيار الديني أو فتاوى العلماء، بل هو الفساد بكل أشكاله العفنة الذي اخترم مجتمعنا، - بما قاله الدكتور أحمد التويجري- وتلك المحسوبيات التي توصل من لا يستحق المنصب على حساب الأكفاء، وحجب الحقائق عن أعين المسؤولين، وعدم قيام الإعلام بدوره كسلطة رابعة تعين ولاة الأمر على كشف الأخطاء، وانشغاله بافتعال الاحترابات الفكرية، وجملة من الأسباب التي لو اتجهت لها التيارات الوطنية يدا واحدة لكشفها، لربما ساعدنا في التقدم، بدلا من تراشق الاتهامات.
بعض المعارك المجتمعية، تكشف من يتحلى بأخلاق الفرسان من ذلك الانتهازي الذي تغلبه الأيديولوجيا العمياء.