معروف أن سوق عكاظ هو أشهر ملتقيات العرب الثقافية في التاريخ العربي، حيث يعود تاريخه إلى ما قبل ظهور الإسلام.
نحن اليوم نبتعد عن هذا الحدث الزمني أكثر من أربعة عشر قرناً، لكننا-في الوقت ذاته- نقترب منه كفعل ثقافي حافل ما يزال محفوراً في ذاكرة التاريخ، لنعيش هذه الأيام سوق عكاظ العربي (ثقافةً) بنسخته السعودية (رعايةً وتنظيماً)، فها نحن نشهد هذا المحفل المهم في دورته السنوية الرابعة، بعد أن دشنه - نيابة عن خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز- أمير الشعر والفكر خالد الفيصل بن عبدالعزيز، فبعثه للحياة من جديد، وهو الذي عُرف عنه الريادة في تأصيل وتأسيس المشروعات الثقافية الكبرى الممزوجة بالعزم والعمل والإصرار على النجاح.
وأظن أن الكثير منا ما زال يتذكر تلك الأصوات النشاز التي صاحبت افتتاح الدورة الأولى لسوق عكاظ، محاولةً وأد هذا المشروع الثقافي الهام، إلا أن قافلة عكاظ الثقافية واصلت مسيرها، فمن الصعب محاولة إيقاف التاريخ أو الإمساك بعجلة الزمن... ولذلك افتُتح سوق عكاظ، وشهد إقبالاً ثقافياً منذ أول عام، وها هو رغم كل شيء يستمر في حصد النجاحات سنة تلو أخرى، مسجلاً للمملكة العربية السعودية حضوراً ثقافياً إضافياً يستمد قوته من الجذور البعيدة للتاريخ العربي، حيث كانوا يفدون من مختلف البقاع إلى هذا السوق العتيد، يتعاكظون ويعرضون ثقافتهم ومختلف بضائعهم، فبرز لدى العرب الشعراء والخطباء والحكماء، وازداد الناس تعارفاً وتثاقفاً، كما ازدادوا تماسكاً وسلاماً من خلال حل مشكلاتهم الشخصية والقبلية، إذ كان "عكاظ" مكاناً لتجمع والتقاء أبناء مجتمع الجزيرة العربية من كل الأطياف والأصقاع.
سوق عكاظ اليوم، بنسخته الحديثة، يحاكي أصالة الماضي وفق معاصرة الحاضر، فرغم صعوبة البدايات إلا أنه سار بخطى متدرجة وواثقة، ليؤسس لمرحلة ثقافية جديدة كتلك التي عرفناها، خلال ربع قرن، من خلال المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية)، ويبدو أن السنوات القادمة ستكون سنوات "عكاظ"، حيث سيكمل المسيرة الثقافية لبقية المهرجانات السعودية، وربما سيلتفت إليه بقية أبناء المجتمع، فلن يكون حكراً على اهتمام النخب الثقافية، وبالتالي يكون نقطة انطلاق جديدة لانفتاح المجتمع على الثقافة المحلية والعربية، وبذلك أتمنى أن يكون سوق عكاظ محضناً جديداً وحيوياً لفنون نفتقدها بقوة، كالمسرح والسينما والموسيقى، وقد كانت البداية جيدة هذا العام بعرض مسرحية طرفة بن العبد التي أتمنى أن تكون خطوة نحو بعث المسرح السعودي واستقطاب المسرح العربي في ذات الوقت، ومن خلال اليوم الأول للافتتاح بدت بوادر تطويرية جديدة بـ"جادة عكاظ" الجميلة، التي جعلت الذهن يستدعي ما كان عليه العرب في سوقهم هذا آنذاك، عبر الممثلين والمشاهد التمثيلية لإلقاء القصائد والخطب والحوارات وما إلى ذلك، وبالإضافة لهذه الجهود، التي تدور في فلك الثقافة، لم ينسَ القائمون على السوق دوره الاقتصادي في الزمن الغابر، حيث أتيحت الفرص للأنشطة الاقتصادية عبر الحرف اليدوية وغيرها من الأنشطة، وأظن أن محافظة الطائف سوف تنتعش اقتصادياً وثقافياً طالما استمر عكاظ في استقطاب كافة الفئات والشرائح والاهتمامات في المجتمع، كما هي حال السوق قبل خمسة عشر قرناً، وخاصة أن خطوة مهمة شهدنا وضع حجر الأساس لها قبل أيام (وهي خيمة عكاظ ومرافقها)، والتي ستكون جاهزة بعد ثمانية أشهر من الآن، مما يعني أن السوق سوف يزدان بها العام القادم، بعد أن شهد نقلة نوعية هذا العام كأساس سوف يتطور عليه البناء مستقبلاً ويرتقي، وللحق فإن "اللجنة العليا المنظمة لسوق عكاظ" قد بذلت جهداً كبيراً يستحق الثناء، إذ تميز بالإعداد الجيد والمبكر للحدث.. فالشكر، كل الشكر، لمن أبهج الوطن بـ"عكاظ"!