تستحق مأساة هذه العائلة أن تكتب بعمق وحزن ولا عنوان لها سوى: كيف تنتهي حياة من تعب أهله على تربيته بسبب تهور وطيش من أهمل أهله تربيته؟. تخيلت ما يلي كي أفهم وأتلبس قصة هذه العائلة إسقاطاً على حياتي الخاصة.

ظهر الخميس الماضي عاد إلينا "مازن" شاحباً ذابلاً بعد ما أنهى الورقة الأخيرة من امتحانات نصف السنة الخامسة من الطب... وأنا هنا لا أمزح وبالفعل أطلقت رصاصتين من سطح المنزل لأرفع من روحه ولكي يدرك أن "الفرح" ينبع من جوف الضغط والقهر والتعب. ولثلاثة وعشرين عاماً من عمره عشت معه آلاف الأفراح وأيام السعادة مثلما أيضاً بعض الانكسارات وبعض قصص اليأس من عقبات على الطريق جعلت من بعض أيامنا سويعات نتمنى أن تزول من الذاكرة. معه ضحكت وبكيت مثلما طربت وغنيت. هو ألبوم صور مذهلة منذ ليلة الولادة حتى اللحظة. يصعب بي حتى مجرد الخيال أن أشاهد هذا الألبوم ضحية لمن أهمله أهله.

والمدخل لما سبق أنني استمعت في حياتي لآهات وأنات آلاف الباكين على الفقدان والرحيل لكن بكاء هذا "الأب" كان في أذني يتصبب مثل بركان ثائر. صاروخ بشري يعكس شارعاً شهيراً في جدة ويسحق "ابنهم" قطعاً متناثرة قبل شهر من اليوم الأخير للسنة السادسة في كلية الطب. يقول لي: في سيارة هذا "المجرم" وجدوا كل محرم ممنوع لصاحب سوابق تنقذه في كل مرة سطوة المال والنفوذ.

يواصل: كان هذا الابن هو استثماري الوحيد بين ثلاث بنات وولد آخر صغير. من أجله تركنا خبت التهائم كي نعيش بجواره في جدة. تحملت ديوناً للسكن ولمصاريف المدينة الجديدة. قررنا الهجرة معه قبل ثمان سنين لأنه بكى عندما قلت له ذات يوم إن لا مجال أمامه إلا كلية المعلمين بالقنفذة بينما كانت نسبة التأهيل أمامه 92% وهي نسبة لا يصلها سوى الصفوة. رحلنا معه لأنه لا يتحمل أن يعيش من دوننا ولن نستطيع أن نتماسك من دونه. عشنا "جامعته" ست سنين "إلا شهراً" بما فيها عشرات ليالي الامتحانات التي كانت ليالي من كوابيس قاتلة. وبعد عامين من رحيله ها نحن نعود إلى "الخبت" من دونه. انتهى الأمل أن يصبح ابن الجندي طبيباً على يد قاتل قابلته يومها في المحكمة بشعر طويل إلى منتصف الظهر. عاش ولدي، وحتى مات، فقيراً معدماً وتحت الضغط الهائل من أجل البناء والنجاح. لا تشبه قصة هذه العائلة شيئاً من الشبه إلا أن يبني فقير بيته في قصر الوادي طوبة بعد أخرى ليكمله بعد 23 سنة فجأة يفاجأ بصهريج ينحدر فجأة إلى سطح البيت من رأس الجبل. خسرت هذه العائلة كل شيء في ظرف ثانية تحت طيش رصاصة بشرية لم يبن أهلها فيها طوبة واحدة من معايير التربية.