ينظر الكثيرون إلى أن الإمعان في التوجه العلاجي الذي سلكته خدماتنا الصحية، مضافاً إليه القصور في الخدمات الوقائية، قد أوصل الأوضاع الصحية إلى وضع يكاد يكون كارثياً، ويبدو أن الانعتاق من تزايد أعبائه لن يكون سهل المنال. ولا يكاد اللهاث وراء إنشاء مزيد من المرافق العلاجية واستقطاب القوى العاملة وإنشاء المزيد من المدن الطبية، لا يكاد يؤدي إلا إلى نفق مسدود، وعجز في العرض عن مقابلة الطلب المتزايد، خصوصاً وأن هذه التوجهات العلاجية البحتة لم تؤد إلى خفض المصروفات الصحية، بل هي للأسف في تصاعد متواصل.

إن التركيز المجحف على صرف الموارد الهائلة على الجوانب العلاجية، يأتي على حساب حفظ الصحة والتوجهات الوقائية، ليصبح سكان المملكة ضمن الشعوب الأقل ممارسة للنشاط البدني والأكثر سمنة، وكنتيجة حتمية تسجل أرقاماً قياسية في الإصابة بالأمراض المزمنة وعلى رأسها داء السكري، وغيره من أمراض النمط المعيشي التي يمكن الوقاية منها.

هذا السيل من الأمراض لا يمكن أن يواجه بسياسات تتجاهل منبع المشكلة، سياسات شبهتها ذات يوم بأنها "كمن يحفر في الماء". بل تدل على أن الخدمات الطبية تحاول الطيران بجناح العلاج دون جناح الوقاية، وكأن القائمين على هذه الخدمات نبذوا طب المجتمع والطب الوقائي كأن لم يتعلموه أصلاً.

وقد كثر الحديث مؤخراً عن تعزيز الصحة، على أنها التوجه الذي يمكن أن ينقذ الوضع. في هذا المقال أتساءل؛ من المستفيد من أوضاعنا وسياساتنا الصحية؟ ومن المتضرر الأكبر من هذه السياسات ونتائجها؟ وكيف نبدأ في توظيف مفاهيم تعزيز الصحة في إنقاذ ما يمكن إنقاذه؟ وما هي الأولويات؟ وكم سنحتاج من الوقت والموارد لتوظيف هذه المفاهيم وإنزال تطبيقاتها على أرض الواقع؟

لعلي لا أكشف سراً إذا قلتُ إن هناك "راقصين على الألم" يستفيدون من تفشي الأمراض المزمنة، ولعلي لا أكشف سراً أيضاً إذا قلت إن النمط الاستهلاكي في التسوق والتغذية مع قلة الوعي الصحي، يصب في مصلحة فئة محدودة من الشركات العابرة للقارات، والتجار والمستثمرين الذين يلبون بسعادة ونهم هذا النمط الاستهلاكي.

إننا بحاجة إلى توظيف مفاهيم تعزيز الصحة بحيث تصبح جزءاً لا يتجزأ، ليس فقط من أعمال وزارة الصحة وبقية مقدمي الخدمات الصحية، بل لتصبح عملاً متكاملاً ينتظم جميع الوزارات والمؤسسات المعنية، وقد أُلفِّت في هذا المجال كتب، وعُقِدت مؤتمرات لا زالت توصياتها على الأرفف تنتظر التطبيق.

وحتى ذلك الحين يمكن في رأيي من أجل دفع عجلة تعزيز الصحة أن نركز على الاستراتيجيات الآتية:

- تفعيل دور المسؤولية الاجتماعية ونشاطات المجتمع المدني لتشمل الصرف على مبادرات نشاطات التوعية الصحية وتعزيز الصحة وتطويرها.

- التركيز على توظيف الإعلام الجديد ووسائط التواصل الاجتماعي في التوعية الصحية.

- دعم النشطاء وتفعيل دور التطوع في مجالات التوعية الصحية وتعزيز الصحة.

- تنمية الطاقات وتدريب الكوادر والاهتمام بالإبداع والمبدعين من المهتمين بالتوعية الصحية ومن يخدمون قضايا تعزيز الصحة.

- رعاية ودعم مبادرات الأعمال التي تخدم قضايا الوقاية من المشكلات الصحية وخدمات التوعية الصحية وتعزيز الصحة.

- توجيه الأطباء والممارسين الصحيين نحو تبني الجوانب التوعوية وتطبيقات التوعية وتعزيز الصحة وإيجاد "نجوم وقاية" يخدمون تخصصاتهم في جانبها المجتمعي والوقائي وعدم الاكتفاء بالعلاج.

- إشراك القائمين على تطوير التعليم الطبي ليدخلوا مفاهيم الوقاية وتعزيز الصحة ومهارات التوعية وبشكل عملي ممارس ضمن مناهج التعليم في الكليات الصحية.

- التركيز على المبادرات والإبداعات الشبابية وتفعيل مفاهيم توعية الأقران (Peer Education) في قضايا التوعية الصحية وتعزيز الصحة.

وأنا على يقين بأن المضي قدماً في تنفيذ هذه الاستراتيجيات من خارج الخدمات الطبية سوف يقدم لها "بطاقة دعوة" لتلحق بالتوجه. وقد يدعو نظامنا الصحي إلى تبني أفكار أكثر رشاقة وإبداعية، ويجعله -ولو بعد حين- يبدأ في التفكير "خارج الصندوق".

ويجب أن نلحظ أن الأمراض المزمنة تكلف وزارة الصحة ما يتراوح بين 40 و50% من الميزانيات.

إن من شأن توجيه معظم مواردنا وتفعيل الحلول المذكورة آنفاً نحو الأمراض المزمنة مثل السمنة وأمراض شرايين القلب والسكري وارتفاع ضغط الدم وارتفاع ضغط الدم وارتفاع كوليسترول الدم والأمراض السرطانية (وهي مشكلات يمكن الوقاية منها)، إن من شأنه أن يخفف العبء الضاغط حالياً ومستقبلاً على ميزانياتنا ومواردنا. هذا إذا بدأنا اليوم. أما تأجيل البدء فسيرحل المشكلة إلى "وقت لاحق" وقد لا تمكننا ظروفنا المالية وقتذاك من التعامل معها.

أما ما سنحتاجه من أموال فهي مبالغ متناهية الضآلة والصغر، مقارنة بما صرفناه ونصرفه على إنشاء المدن الطبية (على سبيل المثال) التي تبتلع من ميزانيات الخدمات الصحية الشيء الكثير. ولعلي لست بحاجة إلى أن أظهر قناعتي الكبيرة بضرورة التصدي لمعاناة المرضى والحاجة إلى تطوير الخدمات العلاجية الملحة والطارئة من منطلق طبي وإنساني وأخلاقي. إن ما أدعو إليه أن نأخذ بأسباب الوقاية وتعزيز الصحة ونصرف عليها كل ما تحتاجه بقدر قناعتنا بالصرف على العلاج إلى الحد الذي يؤدي فعلاً إلى توقف التصاعد الصاروخي للأمراض ولاحقاً إلى بدء تناقصها.