متى تكون الكتابة هَمّا لديك؟ سؤال مفتوح يبعث على استكناه عوالم كثيرة في نفس المبدع والمثقف بعامة، الكتابة ذلك النقش "المؤلم" حين يحفر في خبايا المشهد ويعريه أحيانا، لا يمكن لها أن تتأتى هكذا دونما استثارة أو إغراء. هي هَمّ وهاجس يستوطن الذات القادرة على رؤية الواقع وما وراءه، القارئة لوجوه الماكثين والعابرين، وأولئك الذين تولوا بلا أثر كما يظن البسطاء، فلكل دور على خشبة المسرح الفسيحة مهما رأيناه يسيرا أو حتى لم نلق له بالا.

متى تكون الكتابة واجبا ومشاركة قيّمة لازمة؟ ناهيك عن ذلك السؤال المؤرق: هل أنت راض عما كتبت؟

يضع الروائي والشاعر فوكنر صاحب "وردة ممفيس البيضاء" وصفة لمن أراد أن يكون كاتبا أو روائيا فيذكر "يجب ألا يرضى الكاتب مطلقا عما يكتبه فلا يمكن أن يكون ما كتبه جيدا كما يجب، وعلى الكاتب أن يحلم دائما ويرفع سقف طموحاته أعلى مما يعرف أنه يستطيع فعله. كما عليه ألا يشغل نفسه بأن يكون أفضل من معاصريه أو أسلافه من الكُتّاب، بل عليه أن يحاول أن يكون أفضل من نفسه" هنا فحسب يمكن أن تحتل الكتابة مساحة التأثير في وعي من ارتهن إليها، واتخذ من حضوره فعلا منيرا يبدد الظلام عن طريق السائرين، يكتب لهم وعنهم وبهم وفيهم، يشكل عالما متاحا لمزيد من الأسئلة والإجابات مهما كلفه ذلك من تضحيات فهذا هو قدره المصنوع، وصيرورته المأمولة دون النظر إلى ما قد يحظى به من مجد أو نجاح مؤقت أو فرص مادية، فالكاتب الجيد لا يقدم للحصول على هبة مالية فهو مشغول للغاية بالكتابة، لكن لو لم يكن كاتبا من كُتاب الطراز الأول فإنه سيخدع نفسه قائلا: إنه لا يجد الوقت الكافي أو لا يملك الملاءة الاقتصادية ليتفرغ للكتابة كما عبر عن ذلك فوكنر نفسُه.

سؤال آخر مؤرق أيضا: هل مهمة الكاتب أن يكون ميسرا وباعثا على الأمل؟ لا أظن، فالكتابة محفز على التفكير وجذب القارئ إلى المشاركة في الأزمة وسدّ ما يتركه الكاتب من بياض كما لفت إلى ذلك توفيق الحكيم في "يقظة الفكر" حين سئل عن ثقة القارئ بالكاتب ومدى أثر تلك العلاقة: إن مهمة الكاتب ليست في حمل القارئ على الثقة به، بل حمله على التفكير معه.. إن الأدب طريق إلى إيقاظ الرأي.. لا أريد من قارئي أن يطمئن إليّ، ولا أريد من كتابي أن يريح قارئي. أريد أن يطوي القارئ الكتاب فتبدأ متاعبه.. فيسد النقص الذي أحدثت.. أريد من قارئي أن يكون مكملا لي، لا مؤمنا بي.. ينهض ليبحث معي ولا يكتفي أن يتلقى عني".