عالم الأسواق المالية مليء بالمخاطر والأزمات، فخلال النصف الأخير من القرن الماضي أصيب العالم بحوالي 146 أزمة مالية، أدت جميعها إلى تراجع النمو الاقتصادي وتفاقم الناتج المحلي في أكثر من 116 دولة من أصل 203 دول في قريتنا الكونية، وذلك بسبب عمليات المضاربة على الأسهم والتلاعب بأسعار السلع الأساسية، مما نتجت عنها انهيارات شديدة في المؤسسات المالية والشركات الكبرى.

في يوم الاثنين الأسود 19 أكتوبر 1987 انهارت أسواق الأسهم والسلع في معظم أنحاء المعمورة، مكبدة الأسواق المالية خسائر فادحة في قيمتها، فاقت 45% في هونج كونج و42% في أستراليا و31% في إسبانيا و60% في نيوزيلندا و23% في بورصة نيويورك. وفي 1 نوفمبر من عام 1984، أُغلق سوق المناخ في دولة الكويت بشكل نهائي عندما فاقت خسائره قرابة 22 مليار دولار، بينما فقد مؤشر سوق الأوراق المالية السعودي 75% من قيمته في يوم الثلاثاء الأسود 14 فبراير 2006.

وفي سبتمبر من عام 2008 انهارت الأسواق المالية والعقارية الأميركية والأوروبية لتفقد خلال ثلاثة أشهر فقط 17 تريليون دولار من قيمتها، تعادل 150% من قيمة التجارة العالمية، وتقارب 100% من الناتج الأميركي الإجمالي، مما أدى إلى تراجع الصادرات العالمية بنسبة 20% في سنغافورة، و35% في اليابان، و41% في الدول الأميركية، و42% في مجموعة الدول الأوروبية، كما انخفض حجم النقل الجوي بنسبة 26% في جميع أنحاء العالم، بينما تراجع نمو القطاع السياحي والفندقي بنسبة 16%.

وقبل ثلاثة أشهر أدى انخفاض سعر النفط في الأسواق العالمية بنسبة فاقت 52% إلى تراجع الأسواق المالية في معظم دول المعمورة، وخاصة في روسيا، حيث أعلن البنك المركزي في موسكو أنه خسر 25% من احتياطياته المالية خلال 90 يوماً، وقام برفع أسعار الفائدة ست مرات، لتفقد العملة الروسية 40% من قيمتها أمام الدولار، مما أدى إلى تصنيف الروبل الروسي في وكالة "بلومبيرغ" المالية في المرتبة الثانية كأسوأ عملة أداءً بين أكثر من 170 عملة دولية.

إلى جانب فقدان هذه الدول لمصداقية أسواقها المالية بسبب عدم التزامها بمبادئ الشفافية والكفاءة التنظيمية، تصاعدت حدة مطالبتها بإنشاء أجهزة متخصصة لإدارة المخاطر، تتبع مباشرة السلطة العليا في الدولة، لمتابعة أنشطتها التنفيذية وتنسيق سياساتها الاستراتيجية ودرء المخاطر عن قطاعاتها الحيوية، فاستعادت هذه الدول ثقتها بأنظمتها المحلية، وضمنت حقوق مستثمريها ومنحتهم الأمن والأمان على مدخراتهم المالية.

ولأن العالم يشهد اليوم تغيرات طموحة لم يسبق لها مثيل، سارعت معظم دول المعمورة، على اختلاف أديانها ومبادئها وسياساتها، إلى إنشاء أجهزة "كفاءة الأداء" و"إدارة المخاطر"، للسير بركاب العولمة وتحقيق الإصلاح الاقتصادي والتحديث التقني، مما أدى إلى انخفاض وتيرة تعرضها للمخاطر المحدقة بشعوبها. أما الدول الأخرى التي أمعنت في تجاهل المخاطر وتأخرت في إنشاء مثل هذه الأجهزة، تحولت مخاطرها إلى أزمات مريرة، لتهدد مكاسبها وتدمر أصول استقرارها وتقوض مبادئ الثقة في تعاملاتها.

في نهاية عام 2014، صدر تقرير الأمم المتحدة الخاص بإدارة المخاطر، الذي أكد على ضرورة قيام جميع الدول بإنشاء أجهزة مختصة للتصدي للكوارث والتخطيط لمنع حدوثها وتخفيف وطأتها. وأوصى التقرير الدول كافة بأهمية توفير نظام إداري لسجلاتها الحيوية، بحيث تكون آمنة ومتاحة في حالات الطوارئ، على أن يتضمن هذا النظام تفويض الإدارة العليا في الحكومة لحماية أسواقها المالية وتحديد النطاق الكامل للمخاطر التي قد تواجهها، إضافة إلى تحليل أزماتها وإدارتها ضمن مجموعة من الخطط المحكمة لمنع وقوع الكوارث المحدقة بها.

وأكد التقرير، الذي يحمل عنوان "التنمية في العالم 2014، المخاطر والفرص"، على أن الأجهزة الرقابية في دول العالم يجب أن تعمل على تحليل المخاطر بأشكالها وأنواعها ومستوياتها ونماذجها كافة، التي تتراوح من فقدان الوظائف، وتفشي الأمراض، وارتفاع أو انخفاض أسعار السلع، واشتعال الأزمات المالية والكوارث الطبيعية، مع ضرورة تسليط الضوء على التداعيات الوخيمة المكلفة لإساءة إدارة هذه المخاطر.

ونظراً لأن المخاطر تخلق تحديات مزمنة أمام سياسات الدول الإنمائية، التي تتسم بالعولمة وما ينتج عنها من تقلبات مفاجئة تؤثر على نتائجها الاقتصادية، مما يجعل من أجهزة "إدارة المخاطر" في هذه الدول ضرورةً مُلِحّة لدرء الكوارث وتخفيف الصدمات.

ومن أجل إيجاد نهج شامل ومتكامل، توصل التقرير إلى أن هذه الأجهزة تتطلب المشاركة في المسؤولية على مختلف المستويات في المجتمع الدولي. ففي حين تمثل المجتمعات المحلية مصدر الدعم الأول، تستطيع مؤسسات الأعمال أن تساعد على امتصاص الصدمات، ويستطيع النظام المالي أن يتيح أدوات مفيدة لإدارة مخاطر المضاربات، وتستطيع الدول أن ترسم قواعد تنظيمية سليمة وصارمة، ويستطيع المجتمع الدولي أن يقدم الخبرات وأن يحشد الموارد العالمية.

الأسواق المالية في دولنا الخليجية عامة والسعودية خاصة في أمس الحاجة إلى إنشاء أجهزة إدارة المخاطر، لتكون الأداة القوية لتفادي الأزمات ودرء الكوارث، ولتصبح القدرة الكامنة لإحلال الأمن وتحقيق الثقة. فالأساليب الضارة للمضاربات في أسواقنا المالية أفقدت بعض المستثمرين ثقتهم بأنظمتنا وقواعد أحكامنا، وفسحت المجال لتمادي المضاربين والمتلاعبين على سرقة ودائعنا وانتهاك حقوقنا والعبث باقتصادنا. لذا علينا القيام فوراً بتحويل استجابات أسواقنا المالية من الارتجالية في مواجهة الأزمات إلى اتباع نهج استباقي ومنتظم ومتكامل لإدارة المخاطر، تنفيذاً لما جاء في المقولة التاريخية الشهيرة: "قيراط وقاية خير من قنطار علاج".