ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟ هكذا خلق الله الإنسان وعلم أسراره وصنعه وبين خصائصه في كتابه الكريم، وهذا الإنسان يلهث في هذه الحياة يريد فهم أسرارها، وكيفية إصلاحها ليعيش عليها بسلام. تختلف فلسفات الإنسان ورؤاه ونظرته للحياة، يواصل الليل بالنهار ليصل إلى تحقيق السعادة والرفاه، يقلق ويتساءل ويفكر ويصنع يريد أن يستحكم على الحياة فيجد أن الحياة قد استحكمت عليه. يصنع الآلة لتسعده ثم يكتشف فجأة أنه خادم للآلة يحرسها ويحوطها ويسهر على سلامتها. تكثر مشكلاته الخاصة والعامة، فيلتفت ذات اليمين وذات الشمال باحثا عن الخلاص مما ألم به، ينجو مرة ويتكردس مرات، تمر به الفتن فتصيبه وقد ينجو منها، هكذا في طبيعة صراعية دائمة لا يهدأ أوار نارها، ولا تنطفئ مشعلاتها.
إن الإنسان والمجتمعات تدرك أحيانا أن خطبا ما قد أصابها، تحس بالمشكلات وتدركها وتعرف وصفها، ولكنها تقف عاجزة عن "تغيير أوضاعها" وحل مشكلاتها، لأن الطبيعة البشرية طبيعة معقدة، والطبيعة الاجتماعية طبيعة متشابكة، ومحاولات الإصلاح والتغيير دائما ما تصطدم بعوائق كثيرة تقف أمام تحقيق مقاصد من يخطط لها، فالأهواء الاجتماعية، والألف للأوضاع، وطبقية الحياة، والثقافة الشعبية ورسوخها، والعادات المستحكمة التي ترسخت عبر سنوات متطاولة، والعوائق الثقافة أمام حركة التغيير والإصلاح وتعدد المفاهيم الداخلية والأصناف والأطياف الفكرية والثقافية وغيرها كثير، كلها تقف عائقا أمام التغيير المنشود الذي هو هدف وغاية للكبير والصغير والحاكم والمحكوم.
آية من كتاب الله، قليلة الكلمات، ولكنها عظيمة المعاني، كاشفة للحال وواصفة للدواء، ليست لأمة الإسلام فقط، بل هي لكل الأمم مؤمنها وكافرها، يقول الله لعباده فيها: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، فـ"ما" في الآية من ألفاظ العموم، و"قوم" نكرة في سياق النفي فتفيد كذلك العموم، و"ما" بأنفسهم كذلك تفيد العموم، فالآية تبين أن الله لا يغير أي شيء يتعلق بحياة القوم، أي قوم، حتى يغيروا الذي في أنفسهم، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، هكذا تفرض الآية "أولوية" التغيير المنطلق من الذات البشرية، التوجه إلى الأفراد أولا إلى أنفسهم قبل تغيير كل شيء، فالناس كثيرا ما تتوجه إلى تغيير ما بخارج النفوس، تغير من المظاهر المادية، تسعى إلى فرض النظم والقوانين، وتسن التشريعات، ولكن هذا كله لا يؤتي ثمرته إلا حين يغير الناس نفوسهم أولا، هنا تبدأ حركة الإصلاح للناس، وتتم بطريقة تلقائية وعفوية، طريقة تشبه هطول قطرات المطر حتى تجتمع لتصبح ماء رقراقا لذة للشاربين، وهكذا كان صنيع النبي صلى الله عليه وسلم بأمة العرب حين جاءهم بشيرا ونذيرا، اهتم بالإنسان أولا، غيره فتغير المحيط من حوله حتى أنتج الصحابة الكرام الذين يتغنى التاريخ بذكرهم، وهكذا كل أمة ناهضة تريد الحياة تبدأ من داخل الإنسان فتغيره، ويبدأ الإنسان بوعيه فيدرك أن ثمرته وصلاحه وصلاح مجتمعه يبدأ من داخل نفسه فيغيرها.
لقد أجاب السفير الأميركي إدوين أشاور وهو يسأل نفسه في كتابه عن "اليابانيين" حين طرح سؤالا مهما: ما هو سر اليابان؟ فأجاب بأن سر نهوضها هو في أمرين اثنين: إرادة الانتقام من التاريخ وبناء الإنسان، فتمثل أمام الرجل الياباني "التحدي والصراع الحضاري" وخاصة أمام الأمم الغالبة، وكيف يُهيأ الإنسان الياباني ليغير من ذاته ونفسه حتى يستطيع حمل هذه الغاية وتحقيقها على أرض الواقع.
إن أمامنا ونحن نواجه هذه التحديات الكبرى مسؤولية تاريخية عظيمة، مسؤولية تغيير الإنسان نفسه حتى يتغير محيطه، وهي ليست مهمة سهلة، هي مهمة التربية والتعليم، ومهمة الإعلام، والأسرة، والمؤسسات التربوية، والخطاب الديني، الذي يقنع الجميع بأن تغيير الذات مفتاح تغيير الكون، حتى نحل "الإنسان" محل "برميل النفط " ليكون مردوده الثقافي والاقتصادي والاجتماعي أكبر من مردود العامل الإنتاجي الأول أو شبه الوحيد، ولن يتم ذلك إلا من خلال إعادة هيكلة الإنسان وترميم أفكاره والغور في ذاته لتنقله من وهدة الأفكار الميتة، واستخذاء الحياة إلى الفاعلية الحضارية التي تجعلنا في مصاف الأمم وفي طليعتها.
هذه العلاقة الجدلية بين تغيير الإنسان نفسه وبين تغير حاله تجعل الإنسان دائما في حالة إصلاح داخلي، لأن هذا هو الذي يحفظ النعم التي يعيشها، والأمن الذي يتفيأ ظلاله، والثروات التي يجنيها، وذلك مصداقا لقوله تعالى: "ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، وهذه لمحة قرآنية عظيمة ونافعة في زمن التغيرات الكبرى والأخطاء التي نعيشها وتحيطنا من كل جانب.